الإسلام المنشود بأي معنى؟! قراءة مونتاجية في (تحرير الإسلام) لفهمي جدعان/ د. غسان إسماعيل عبد الخالق

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

* تعالق مدهش

أكثر ما يثقل كاهل المتابع لما يصدره المفكر الدكتور فهمي جدعان، ذلك التعالق المدهش في خطابه، بين الأسلوب والمضمون والمنهج، إلى درجة التردّد في إيصال مفاصل هذا الخطاب للقارئ، والتفكير -بدلاً من ذلك- بحثّه على قراءة كل مفصل على حدة، تحسبًا من إسقاط كثير أو قليل من حمولة المقروء. فعلى صعيد الأسلوب، يذكر للدكتور فهمي جدعان، بيانه الشاهق الذي يرشّحه لتبوء المقعد الأول بين مقاعد البيانيين العرب المعاصرين، فضلاً عن قدرته المتواصلة على اشتقاق وتوليد وتأهيل العديد من الألفاظ والمصطلحات والعبارات الباهرة. وعلى صعيد المضمون، يُسجّل له تعمقه في الحفر بحثًا عن أدق التفاصيل التي غفل عنها أو أغفلها الآخرون. أما على صعيد المنهج، فما انفك يثري عقلانيته النقدية بالمزيد من أوجه التشخيص التاريخي والواقعي. ومن باب إحاطة القرّاء الأعزاء علمًا، بما أصدره فهمي جدعان حتى الآن، من كتب مثيرة للجدل، يسعدني أن أورد المسرد التالي: 

أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث / 1979.

نظرية التراث ودراسات عربية وإسلامية أخرى / 1985.

المحنة –بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام /1989.

الطريق إلى المستقبل: أفكار –قوى للأزمنة العربية المنظورة / 1986.

الماضي في الحاضر – دراسات في تشكلات التجربة الفكرية العربية / 1997.

رياح العصر – قضايا مركزية وحوادث كاشفة /2002.

في الخلاص النهائي – مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين / 2007.

المقدس والحرية وأبحاث ومقالات أخرى من أطياف الحداثة ومقاصد التحديث / 2009.

خارج السرب – بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية / 2010.

تحرير الإسلام ورسائل من زمن التحولات / 2014.

وحيث أن القارئ المستنير أو المثقف غير المتخصص معني دائمًا بخلاصة المكتوب، فسوف أعمد لتجاوز كثير من التفاصيل والإجراءات الدقيقة والمتخصصة في كتاب (تحرير الإسلام)، وأتصدى لعرضه ومناقشة أبرز أطروحاته، بلغتي الشخصية.

* الإسلام السّمح 

استيفاء لتشخيصاته وحدوسه السابقة، يتصدى فهمي جدعان في كتابه الأحدث (تحرير الإسلام) لمهمة غدت على قدر كبير من الالتباس في اللحظة الراهنة، ألا وهي: الإسلام الذي نريد!! أقول: على قدر كبير من الالتباس، نظرًا لتعاظم عدد الصيغ التي تُقدّم الآن بوصفها (الإسلام المنشود)، ونظرًا للتفاوت الفادح في المنظومات المنتجه لهذه الصيغ، والتي تتراوح بين: الشعبوية الساذجة، مرورًا بالتسييس التام للدين، وليس انتهاء بمقاطعة كل مظاهر الحياة الحديثة، وتكفير كل المنخرطين في مناشطها، ومن ثم العمل على إعادة بناء النموذج الإسلامي السالف بحد السيف!!

لا يتصدى فهمي جدعان لهذه المهمة بوصفه فقيهًا أو متكلّمًا، بل بوصفه مفكرًا عقلانيًا نقديًا واقعيًا، لا يدخر وسعًا لتشخيص مظاهر الخلل أو الاختلال في التفسيرات والتأويلات والممارسات التي ألصقت بالإسلام، وصار كل منها يمثل في وعي أتباعه وأنصاره المتن المتين، فيما هي ليست أكثر من هوامش ألحقت بهذا المتن النبيل وفرضت عليه عنوة، لأسباب ومقتضيات تاريخية وسياسية؛ فالإسلام السَّمح  كما يمكن أن يُفضي إليه الاستنطاق العقلاني للنص القرآني والسنة النبوية، عقيدة رحبة تقوم على تفهم حاجات واحترام الفرد والجماعة ماديًا وروحيًا، وتعمل على صقلها ونظمها في سلك التحضّر والحداثة، عبر تعظيم دوافع الاجتهاد والابتكار، واحترام التعدّد والتنوع، وصيانة الحريات العامة والفردية، ورعاية مصالح الناس، باسم الدفاع عن قيم الحق والخير والجمال. وهذا يعني –مما يعني- أن للمجتمع الإسلامي الحق في اختيار الشكل الذي يراه مناسبًا للحكم، شريطة أن يحقق مقاصد الإسلام المشار إليها آنفًا. وأيًا كان هذا الشكل، فلا بد له من الاحتكام إلى جوهر الديمقراطية، وبقطع النظر عن المسمّى المعتمد لتحقيق هذا الجوهر. كما أن هذا الشكل ملزم أخلاقيًا بحماية التنوع في مكوناته، سياسيًا وفكريًا واجتماعيًا ودينيًا وطائفيًا. ولا يجوز له أن يسمح بأي ضرب من ضروب العنف اللفظي أو المادي بين أفراده أو مكوّناته، لأيّ سبب من الأسباب.

* تسويات ملحّة

بناء على ما تقدم، لا بد من إجراء العديد من التسويات التاريخية في المجتمعات الإسلامية، والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي:

* أولاً: رفع التناقض بين الأنظمة الحاكمة والمحكومين، عبر التوافق على الخطوط العريضة الناظمة لتفاصيل الشكل والمضمون. 

* ثانيًا: رفع التناقض بين المذاهب والطوائف الإسلامية، عبر تأكيد الحق المطلق لكل فرد أو جماعة في التفكير والتعبير عن القناعات بطرق سلمية، على أن لا يكون من بين هذه القناعات الاعتقاد بتكفير الآخرين. 

* ثالثًا: رفع التناقض بين الذكورة والأنوثة في هذه المجتمعات، عبر تأكيد خيرية الإنسان بإطلاق، وبقطع النظر عن تصنيفه البيولوجي، لأن الله –عزّ وجلّ- كرّم الإنسان بوصفه إنسانًا وليس بوصفه ذكرًا أو أنثى، فمنحه العقل للتمييز بين الحق والباطل، كما حدّد الفيصل في مدى قرب الإنسان منه أو ابتعاده عنه بالتقوى، التي تعني التمسّك والدفاع عن القيم التي أوصانا بها: الحق والخير والجمال. 

* رابعًا: رفع التناقض بين المجتمعات الإسلامية وغيرها من المجتمعات غير الإسلامية، عبر تفهم الخصوصيات الحضارية، والسعي لتحقيق مبدأ تبادل المنافع والتصدي المشترك لمواجهة الأخطار التي تهدّد الحضارة الإنسانية.

* المفكرون والكتلة الحرجة

لتحقيق هذه الغايات التي تبدو الآن ضربًا من خرط القتاد، لا بد من الاتجاه لتشكيل جبهة ثقافية واسعة، بقيادة المفكرين الذين يجب أن يغادروا صوامعهم وأبراجهم العاجية لتنوير المجتمعات الإسلامية وجمهرة ثقافة التقدّم، ووضع حد حاسم لكل من اختطف المتن الإسلامي العظيم، واحتكر الحق في تفسيره، ومنح نفسه امتياز تصنيف الناس إلى: مؤمنين وكافرين، وأعمل السيف في رقابهم، وعاث في ديار الإسلام والمسلمين الفساد والظلم والتجبر.

إن على هؤلاء المفكرين أن يعملوا جاهدين لتحقيق شرط (الكتلة الحرجة) القادرة على إحداث الفرق في حياة المجتمعات الإسلامية، وإقناع هذه المجتمعات بحقيقة أن كل هذه الجماعات الدموية المتطرّفة التي تدعي أنها تمثل الإسلام والمسلمين وتتحدث باسمه وباسمهم، ما هي إلا عصابات مارقة تضطلع بدور تآمري يهدف إلى تشويه صورة الإسلام الحقيقي، ولا تفعل أكثر من أنها تقدّم بسلوكها وجرائمها مبررات كافية لضرب وعزل المجتمعات الإسلامية ومنعها من مواكبة العصر والإسهام في مسيرة تقدمه. إنها ليست أكثر من ترجمات لأفكار وطروحات المستشرقين المتعصبين الذين لم يروا في حضارة الإسلام والمسلمين، إلا السيف والدّم والدمار، بدءًا بآرنست رينان مرورًا ببرنارد لويس وليس انتهاء بصموئيل هنتنغتون.

* ملاحظات قد تكون وجيهة

استيفاء لمطلوب هذه القراءة وما بعدها، فإن من المفيد التنويه بثلاث ملاحظات، قد ترقى إلى مستوى المآخذ التي يمكن تسجيلها على هذا الكتاب؛

أولها: يتمثل في أن فهمي جدعان، ورغم واقعيته التشخيصية، يبدو أفلاطونيًا، على صعيد الدور الذي يرسمه للمفكرين الأنقياء مقارنة بالسياسيين الفاسدين. وكأنه يفترض مسبقًا أن المفكر طهراني بالضرورة وأن السياسي شيطاني بالفطرة! مع أن اليوتوبيا التي أطلقها أفلاطون في (الجمهورية) وتابعه فيها الفارابي في (المدينة الفاضلة) تتطلب الاثنين معًا: السياسي النقي القوي العادل المستنير والفيلسوف الذكي الحكيم الواقعي المبادر. ومن نافل الحديث القول بأن أيّة مقارنة للواقع العربي الآن، سوف يكون مصيرها الخذلان والفشل، ما لم يشارك فيها كل من: رجال الأعمال والسياسيون والمفكرون، بوصفهم الأحصنة اللازمة لجر عربات التغيير. وهذا يتطلب تقديم أفكار عملية جاذبة ومغرية لرجال الأعمال ورجال السياسة في آن واحد، فضلاً عن ضرورة الاعتراف بأن عددًا غير قليل من المفكرين العرب، قد تقبلوا برحابة صدر، المحاولات الناجحة لتدجينهم وترويضهم، فصغّروا أكتافهم وتحولوا إلى ببغاوات منفوشة الريش، تصدح بما يطلب منها أن تصدح به  -وخاصة عبر الفضائيات- ففقدوا الحق في الرقابة الأخلاقية، على السياسي الذي نجح في إفقادهم براءتهم الفكرية بالتواطؤ مع حليفه العتيد: رأس المال!

ثانيها: يتمثل في أن فهمي جدعان، ورغم حسّه العروبي المشهود، يبدو متشائمًا بخصوص ممارسات ومآلات (الإسلام العربي) مقارنة بتطبيقات وإنجازات (الإسلام غير العربي) وبخاصة في تركيا وماليزيا! فالأول يزداد شوفينية إلى درجة الإيحاء بأنه يتجه إلى الانغلاق على ذاته وإعادة إنتاج خطيئة الدين القومي أسوة باليهود. لكن الثاني، ورغم سواتر اللغة والتاريخ والجغرافيا، يزداد انفتاحًا على حقائق العصر وضرورات المواكبة الخلاّقة للتقدم، بل هو أكثر تقبلاً لأفكار التعدد والتنوع والحوار داخليًا وخارجيًا. ومع أن واقع الحال في تركيا وماليزيا يمكن أن يعضد ما ذهب إليه فهمي جدعان، تصريحًا أو تلميحًا، إلا أن واقع الحال –أيضًا- في أفغانستان وباكستان تحديدًا، يؤكد أن ما لحق بالمتن الإسلامي من تفسيرات عربية متطرفة، مردّه في المقام الأول إلى التأثر السلبي بالتجارب الجهادية في هذين البلدين، إلى درجة يمكننا الجزم معها بأن النسخة الإسلامية الجهادية، التي تم تصديرها من هذين البلدين تحديدًا، قد كان لها الدور الحاسم في إكساب (الإسلام العربي) سمات التطرّف والعنف والنكوص المرضي إلى الماضي، فضلاً عن الرفض المطلق لأي شكل من أشكال الحريّات الفردية أو الجمعية، وبوجه خاص حرية المرأة في التعليم والعمل.

ثالثها: يتمثل في أن فهمي جدعان، ورغم ما جوبه به كتابه (خارج السرب) من بعض الانتقادات التي قد تكون وجيهة، ظل متمسكًا بالدفاع عن حرية المرأة العربية، من منظور النسوية الغربية الحداثية وما بعد الحداثية، كما ظل متحمسًا للإحالة إلى تجارب نسوية إسلامية متمردة، بوصفها نماذج واقتراحات ممكنة على صعيد ضرورة إعادة تفهم وتأويل النص الإسلامي الخاص بالمرأة. ولا ريب في أن المراهنة على طروحات النسوية الغربية قد تبدو مبررة على الصعيد الابيستمولوجي البحت نظرًا للآفاق المفتوحة التي يمكن أن تتيحها للمفكر التائق للتفكيك والتركيب والتأويل دون الارتهان لأي آمر مقدّس، لكنها على الصعيد الإجرائي تصطدم بالعديد من العقبات النفسية والتاريخية والثقافية المتأصلة في المجتمعات العربية، والتي من شأنها أن تظهر التجارب النسوية التي اتخذ منها جدعان نماذج للدراسة، محض استثناءات فارقة ومستهجنة. ومن المرجح أن مقاربة مشكل الحريات النسوية في المجتمعات العربية، يمكن أن تكون مجدية وأكثر استثارة للتعاطف مع المصلح والمفكر، إذا أنجزت من خلال استنطاق نماذج نسوية عربية معتدلة وناطقة بالعربية ومنخرطة في الواقع العربي اليومي، وليس من خلال نماذج نسوية عربية / إسلامية تعيش في الغرب، وتستمتع بانتاج خطابات متصادمة مع النص والواقع التاريخي والموضوعي للمرأة العربية.

 

* فقه الواقع والمستقبل

وأيًا كان حظ هذه الملاحظات من الوجاهة، فإن مجموع الطروحات والحدوسات والاستشرافات التي يتقدم بها فهمي جدعان في (تحرير الإسلام)، تمثل منصة صلبة للجدل في فقه الواقع والمستقبل، من منظور معرفي وواقعي بحت، دافعه تفعيل فريضة الاجتهاد، وسداته مراعاة المصالح المرسلة للناس والدعوة إلى إعادة النظر فيما رسخ في أذهاننا بوصفه بديهيات ومسلّمات وقطعيات. ولعمري، فإن كتابًا يفتح أبواب التساؤل والسؤال، يظل –رغم كل ما يمكن أن نختلف معه فيه- خيرًا من مئات الكتب التي تمور بالإجابات المتوقعة والمكرورة والمرشّحة لتكثيف صدأ الواقع. وكم من سؤال فتح أبوابًا للمستقبل… وكم من جواب أغلق منافذ التفكير!!! 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى