الإنسان الحديث بلا حكايات

الجسرة الثقافية الالكترونية

*موريس ابو ناضر

المصدر: السفير

 

يرى المتابعون للحياة الثقافية في فرنسا، أن ثمة أبواباً ثلاثة يمكن العبور منها الى عالم هذه الثقافة. الباب الأول يقود المتابع الى الستينات، فترة التحرير التي أدّت الى صعود «الوجودية» ممثلةً بسارتر وكامو. الباب الثاني يفضي بالمتابع الى فترة السبعينات، حقبة بروز البنيوية التي مثّلها لاكان وفوكو، أما الباب الثالث فيؤدّي الى الفترة الحالية، فترة الفكر النقدي، والاهتمام بعالم الإنسان والطبيعة، التي تمثّلها مجموعة من المفكرين والباحثين المعاصرين أمثال لوك فرّي، مارسيل غوشيه ورجيس دوبريه.

يرى المفكر الفرنسي فردريك ورمز في كتابه «الفلسفة في فرنسا القرن العشرين»، أن هناك شروطاً عدة للحديث عن «الفترة». أولها، أن يحدث خلال هذه الفترة اختراق، يحمل معه جديداً لا يتمرأى فقط في عمل فكري وحسب، إنما من خلال خلخلة مجموعة من اليقينيات السائدة، وثانيها ألا يتأتّى هذا الاختراق من موضوع فقط، بل من معضلة لا تعالج بموقف فكري معيّن، وإنما من خلال مواقف عدة، يساهم فيها أهل العلم والفكر والفن، عبر كشف علمي، أو حدث سياسي، أو إبداع فني، كما «الوجودية» التي شكّلت مثلاً «فترة» كان الجميع مشغولاً بها، وبمناقشة أفكارها عبر لقاءات، وكتب، ومحاضرات، ومنشورات، كان في أوّلها سارتر وكامو وبوفور ولافيناس، وكان في ثانيها اصطدامها بعلم النفس التحليلي، والماركسية ومشتقّاتها.

من الممكن القول إن الوجودية التي تربّينا عل نهجها وأطروحاتها في العالم العربي، شكّلت في الستينات من القرن العشرين إحدى المحاولات الأساسية في بناء الحياة الفكرية المعاصرة، لجهة فهمها التاريخ الذي حمل فكرة الحرية باعتبارها طريقاً الى تحرّر الإنسان من أثقال الماضي، فكرة أخذت تتكوّن مع الثورة الفرنسية، واستتبعت القول بأن للعالم الذي صنعه الإنسان قوانينه في مجال الاقتصاد والاجتماع والديموغرافيا. قوانين تقوّم العلوم الإنسانية بدراستها وشرحها. وإذا كان ماركس يقول إن الناس يصنعون التاريخ، ولكنهم لا يدرون أي تاريخ يصنعون، فإن سارتر يضيف في هذا السياق أن الناس هم مصنّعون بالتاريخ الذي يقومون بصنعه، عبر مشاركتهم الحرة التي كانت مصادرة من رجال المال والدين.

إذا كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وجودية على طريقة هوسرل، ومن بعده سارتر نظراً الى ذهابهما الى اعتبار أن الظواهر الإنسانية موجودة في العلاقات التي يقيمها الإنسان، علاقات لا هي موضوعية خالصة ولا ذاتية خالصة، فإن الألسنية والأنتربولوجيا وعلم النفس والنظرية الأدبية هي التي أبرزت «البنيوية» وأودعتها الساحة اللغوية والفكرية والاجتماعية، بعدما أبعدتها عن الفاعل الجماعي عند الوجوديين، وقرّبتها من الفاعل اللغوي عند «الألسنيين»، الذين يعتبرون أن الإنسان يحمل في كيانه مشاعر وآراء وتصوّرات، ولكن لا قيمة لها إلا عندما تنسكب في قالب لغوي. من هنا، قيل مع أرسطو إن الإنسان حيوان ناطق، والنطق لا يقوم إلا على اللغة من حيث هي أصوات تحمل معاني. وهذه المعاني لا تفهم إلا من خلال مخالفة بعضها لبعض داخل النظام الواحد على ما يقول سوسير.

استندت البنيوية الى فكرة الفاعل اللغوي بغية قراءة الوجود في مظاهره المتعدّدة أدبياً وفكرياً واجتماعياً، ورفض البنيويون مع سوسير والشكليون الروس طريقة الوجودية في قراءة الوجود. لقد ذهب كلود ليفي ستراوس الى أن المنهج التاريخي والتحليلي لدراسة البنى الاجتماعية، وتحليل العلاقات الإنسانية في المجتمعات البدائية، لا يسفر عن نتائج يقينية مقنعة، وأن النموذج اللغوي يمكن أن يكون أكثر عوناً وأشدّ خصوبة من التحليل التاريخي، وقد التقى مع ياكوبسون في هذه الأفكار فحلّلا معاً «سونت القطط» لبودلير تحليلاً بنيوياً، والتقيا في التحليل النفسي مع جاك لاكان الذي اعتبر أن الإنسان محكوم بلاوعيه، وتعبره قوى غير واعية تؤثّر في صياغة مشاعره ونطقه.

ظلّت الوجودية والبنيوية تحتلان الساحة الفكرية في فرنسا، الى أن برز الفكر النقدي في أوجهه الثلاثة: «ما بعد الحداثة»، «فلسفة الشك»، «التفكيكية» مع مجموعة من المفكرين، ومن بينهم: جول دولوز وجاك دريدا وجان فرنسوا ليوتار. لقد رأى هولاء أن الإنسان الحديث يعيش من الآن فصاعداً بلا حكايات كبرى، والحكايات الكبرى هي الأساطير، وفي ما بعد المذاهب التاريخية التي تغذّت منها المجتمعات المعاصرة، ولكن بعد فظاعات الحرب، وحكم الأنظمة الشمولية، لم يعد بالإمكان انتظار أي غد أفضل، لا من العلم، ولا من الأيديولوجيات السياسية. لذلك، على الإنسان ألا يأمل كثيراً في الحقيقة المعطاة له، وفي التقدّم، وفي الثورة لبلوغ الحرية، وعليه أن يقنع بسيطرة التقنيات والعلوم على وجوده، وأن يتكيّف مع هذه السيطرة من دون القدرة مع ذلك على الوثوق فيها، أي في ما يتعلّق براحته. كما على كل واحد اليوم، أن يقتنع بالاختلافات الثقافية بينه وبين الآخرين من دون انتظار ذوبانها في مثال حضاري جديد.

لقد دخلت الإنسانية وفق ما يقول باتريس مانغليه، صاحب كتاب «الفترة الفلسفية في الستينات في فرنسا»، العالم المتعدّد. العالم الذي يتّخذ في منحاه الاقتصادي وجه العولمة، بحيث لا يعود الإنسان كائناً يعيش وحده ولوحده، وإنما مرتبط بذاتية أخلاقية، ترى في حقوق الإنسان أهم من أي فلسفة أو أيديولوجية، وترى في معنى الحياة بوجهها العلماني، خلاصاً من وطأة المؤسسات الدينية، وترى في مفهوم الديموقراطية مقبرة لكل النزعات الشمولية التي تؤدّي الى الهيمنة والتسلّط، وترى في الحفاظ على البيئة دعوة تفوق كل الدعوات.

كما هو معروف، دشّن سقراط تقليداً في تاريخ الفكر يتمثّل في منهج الشك، فالمفكر الحقيقي ليس هو ذاك الذي يعرف، لكنه على العكس من ذلك، هو الذي يطرح أسئلة حول معرفته، هو الذي يعرف كيف يواجه الشك هنا، بحيث يعتقد العقل الدوغمائي أنه يمتلك الحقيقة. هذا التقليد نجده في أعمال دريدا، التي تلخّص الى حدّ كبير التوجّهات الفكرية المعاصرة في فرنسا لجهة تفكيكها، وشكّها في كل الأنساق النظرية التي تطمح الى الكونية. كما نجده عند المفكرين الشباب الذين قطعوا حبل السرة مع الفلسفة التقليدية التي كانت ترى الفيلسوف سيد الحقيقة، وانتقلوا من الاعتقاد بحقيقة الأشياء الى حقيقتها النسبية، وانتقلوا من القضايا المتعلّقة بالميتافيزيقيا الى البحث في طبيعة الإنسان، وحقوقه في العيش بكرامة، في مجتمع متعدّد الطبقات، وقرّروا هجر التأمّل في الغرف السود، من أجل بناء عالم أكثر عدلاً وأوفر حرية.

في بحثهم عن الحقيقة، انتهج المفكرون في القديم نهج البحث عن المطلق، أو الوصول الى المعرفة النهائية، أما اليوم فقلائل هم المفكرون الذين يعلنون عن هذه الطموحات نفسها، إذ لم يعد الزمن زمن سادة الفكر، وبناة النظم، وليس بإمكان أحد الادعاء بامتلاك «حجر الفلاسفة» من دون إثارة السخرية. يقول ديكارت: «كي يكون تفكيرنا صحيحاً، ينبغي التخلّص من كل معارفنا السابقة، أي تحطيم الأساطير، وخلخلة اليقينيات، والإشارة بأصابعنا الى أوهامنا». وهذا ما يسعى إليه المفكرون الفرنسيون في كتابتهم للفكر كما يستطيع عقلنا تصوّره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى