الانتفاضات العربية بعين مثقفين غربيين

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

خالد غزال 

لا تزال الانتفاضات العربية التي اندلعت في العام 2011 في بعض الأقطار العربية موضع نقاش وبحث، في العالمين العربي والغربي. فهذه الانتفاضات شكلت بحق تحدياً للنظريات وللمفاهيم السائدة في الشرق الأوسط. وشكل تطورها والحروب الأهلية التي نجمت عنها ميدان دراسات خصوصاً في الفكر الغربي المحكوم بنظرة أحادية الجانب إلى المنطقة قوامها أن الشعوب العربية خانعة وعاجزة عن التغيير في مجتمعاتها. لذا تنعقد دوماً مؤتمرات تنظمها مراكز أبحاث، تستدعي من هم على خبرة في شؤون الشرق الأوسط لقراءة ما حصل وما يمكن أن يحصل لاحقاً. من الأبحاث الصادرة عن «المؤتمر السنوي لبرنامج العلوم السياسية الشرق أوسطية» في جامعة جورج واشنطن، والمنعقد في شهر ايار (مايو) 2011، والذي ضم أكثر من ثلاثين باحثاًَ وباحثة متخصصين بشؤون الشرق الأوسط، كان كتاب: «شرح أسباب الانتفاضات العربية، منحى سياسي خلافي جديد في الشرق الأوسط»، حرره مارك لينش، وصدر عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت.

يلخص لينش النظرة الغربية، والأميركية منها خصوصاً، إلى المنطقة العربية بالقول: «مثل غالبية الأنظمة وجماع صناع السياسة تقريباً في الولايات المتحدة، لم يكن علم السياسة الأميركية معداً للتعامل مع هذه الخضة، لأن كتابات العلوم السياسية التي تناولت المنطقة العربية ركزت، طوال الفترة الزمنية الأخيرة، على قدرة النظام الاستبدادي الراسخ على استرجاع السيطرة، على العجز النسبي للمجتمع المدني، وعلى الأثر المحدود الظاهر لنشر آراء وأعراف جديدة عبر وسائل الاتصال والإعلام التقنية. لربما كانت الردود الأولى على الانتفاضات مبالغاً فيها في وصف هذه الأخيرة كظاهرة حديثة وفي تقييم وسع نطاقها في خضم الحماسة لتحقيق تحديات شعبية لطالما حرم الشعب منها. لكن الآن يجدر بعلماء السياسة تقويم الانتفاضات ودلالاتها». شكلت هذه المقولة المسبقة حول العالم العربي موضوع التحدي في فهم ما يحصل من قبل فكر متهم بنظرات جزئية إلى المنطقة، بل وأحادية الجانب، ومحكومة بموقف يرى في المنطقة مصدراً لموارد الغرب ومصالحه، وانطلاقاً من نظرة جيوبوليتيكية تميز بين مركز هو دولة اسرائيل، وأطراف تمتد على مساحات العالم العربي.

 

نموذج سياسي

جادل المؤتمرون لمصلحة الفكرة القائلة أن الانتفاضات الثورية العربية تتطلب نموذجاً ديناميكياً للنزاع السياسي يأخذ في الاعتبار تفاعل مختلف اللاعبين الأساسيين، ويشمل مستويات متعددة من التحليل للوقائع المتحققة. في إشارة إلى المراحل التي مرت بها الانتفاضات، ترصد الأبحاث المقدمة مراحل مرت بها، كانت هناك المرحلة التعبوية، حيث انفجر الاحتقان المتراكم على شكل احتجاجات في الشارع، أطلقت شعارات شبه موحدة في معظم الأقطار التي اندلعت فيها، كان أهمها «الشعب يريد إسقاط النظام، ارحل ارحل…». تفاوتت ردود فعل الأنظمة على هذه التظاهرات بين التسوية والقمع وإخلاء الساحة للحرب الأهلية. برزت في هذا الحراك قوة مؤسسات الدولة ومتانتها وقابليتها للتحمل، كما ظهرت انقسامات غير متوقعة في الأجهزة العسكرية والسياسية، من دون إغفال حصول توتر بين متشددين ومعتدلين، وبين القطاعين العام والخاص.

فرض سؤال محيّر نفسه في المؤتمر: ما الذي يستدعي التفسير؟ ومصدر السؤال أن الانتفاضات التي زعزعت أنظمة الحكم زعزعت أيضاً نتائج كتابات سادت لزمن عن قدرة الدول العربية على استعادة السيطرة، خصوصاً أن معظم علماء السياسة فاتهم إمكان حدوث تحركات شعبية. ذهبت تلك الدراسات إلى تبيان «عوامل متنوعة لتفسير قدرة النظام الاستبدادي على استرجاع نفوذه: سهولة الحصول على النفط، واستثمار الأراضي الاستراتيجية، وقوات أمن متطورة فوق اللزوم، وخطط استراتيجية محكمة لتفريق المعارضة واستيعابها، والثقافة السياسية».

 

الاحباط العربي

لفتت بعض الأبحاث الواردة إلى أسباب لعبت دوراً في إطلاق هذه الانتفاضات، من قبيل الإحساس بالإحباط الذي بات يساور المجتمع السياسي العربي بأكمله، وإلى انحلال المؤسسات، وتزايد الثغرة بين الأغنياء والفقراء في شكل مذهل، وإلى نشوء جيل من الشباب يعاني التهميش وحرمانه حقوقه الشرعية، وارتفاع نسبة البطالة بين خريجيه الجامعيين، هذا إضافة إلى القمع السياسي وضرب حركات المعارضة السياسية وغيرها… لكن دراسات قدمت أشارت إلى أن هذا الحراك الاحتجاجي المتصف بديناميكية استثنائية لم يولد من العدم. ففي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت المنطقة حركات احتجاجية تناولت السياسة الاسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، وضد الغزو الأميركي للعراق، إضافة إلى احتجاجات شعبية عمالية وقضائية واقتصادية في مصر، وضد الهيمنة السورية في لبنان… لكن ما ميز حراك العام 2011 عن غيره، كان حجمه الهائل بحيث ضم شرائح اجتماعية واسعة لم تشترك في حراكات سابقة، ثم في تحول هذا الحراك إلى ما يشبه الزلزال في الأقطار التي حصلت فيه. شهد الحراك لاعبين جدداً من «فئات شبابية تمتاز بوعي ذاتي قوامها الحراك الاجتماعي المعتمد على وسائل مميزة (وسائل الإعلام الاجتماعية والرسائل النصية القصيرة ولجان التنسيق الشعبية)، لتحدي القوانين والخطوط الحمر للعمل السياسي التقليدي. أضف أن هذه الفئة قامت بتحريك قطاعات وفئات لم تجيش سابقاً، وجلبها إلى الشارع، وخصوصاً الطبقة المتوسطة المدنية التي بقيت قبل ذلك متمسكة بموقفها المتحفظ، ونأت بنفسها عن أي شكل من أشكال الاحتجاجات السياسية.

توقفت بعض الأبحاث عند ردود أنظمة الحكم على الاحتجاجات، فيما قررت بعض الأنظمة التضحية بزعمائها في تونس ومصر واليمن، عمدت الأنظمة في ليبيا وسوريا، إلى إطلاق الرصاص على المتظاهرين واستخدام أقصى العنف المسلح في قمع الانتفاضة، وهو ما حول الحراك في هذين البلدين إلى حرب أهلية مدمرة لا تزال تجرجر أذيالها حتى اليوم. إن اعتماد أنظمة الحكم لغة العنف مثل نقطة تحول مصيرية في الحراك الشعبي، لعل إحدى نتائجه بروز حركات إسلامية متطرفة، أجابت عن عنف النظام بعنف مماثل، مما كان له آثار تدميرية على الانتفاضات التي انطلقت سلمية، وظلت ترفع شعارات «سلمية، سلمية»، وترفض الاستجابة لعنف النظام بعنف مقابل، فيما يزج النظام في ليبيا وسوريا بالمزيد من القوى العسكرية واستخدام كل ما يملك من أسلحة تدميرية ضد المتظاهرين. كما أن هذه التحولات سمحت لتدخلات دولية وحولت الأرض العربية إلى ميدان حروب بديلة تخوضها القوى الكبرى لتأمين مصالحها الاستراتيجية، غير عابئة باستخدام الشعوب العربية وقوداً لتحقيق هذه السيطرة.

في محاولة تلمّس استشراف مستقبلي، تحاول بعض الأبحاث التوقف عند موضوعة حصيلة هذا الحراك، وهل يمكن له ان يصل إلى تحقيق حد أدنى من الديموقراطية، وهو الشعار الجامع تقريباً لجميع الانتفاضات التي شكل مطلب الحرية السياسية قاسماً مشتركاً فيها. لم تظهر من النصوص إمكانات فعلية لهذا التحقق، بالنظر إلى تعقيدات المجتمعات العربية وبناها القائمة على العصبيات والطوائف والإثنيات، وعدم استعداد الطبقات السائدة التنازل عن مصالحها وامتيازاتها. كان طبيعياً أن يسود تحفظ وشكوك في هذه المسألة خصوصاً أن المؤتمر كان ينعقد بعد مرور أشهر فقط على قيام الانتفاضات.

يكتسب الكتاب أهميته من كونه يقدم نظرات غربية إلى مجتمعات عربية تمر بمراحل مخاض وتوتر. على رغم ان أبحاثه محكومة بالفترة الزمنية التي انعقد فيها المؤتمر، إلا انها تظل ذات قيمة معرفية للانتفاضات العربية ولتعامل الوضع الدولي معها في شكل خاص.

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى