الباحث الإيطالي “باولو كوستا” يوثق جماليات المحراب في المساجد العمانية القديمة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*سماء عيسى

المصدر / عمان

وثق الباحث الإيطالي الدكتور باولو كوستا، الذي عمل كمستشار للآثار بوزارة التراث القومي والثقافة سابقا، خلال إقامته الطويلة بالسلطنة، تجربة فنية متميزة يندر وجودها بالمساجد الإسلامية قديما، ألا وهي جماليات المحراب في المساجد العمانية القديمة. وقد قام بمسح يوثق 21 محرابا منقوشا ومؤرخا عبر مرحلة تغطي فترة زمنية تمتد ستة قرون من عام 650هـ/1252م وحتى 1245هـ/1829م.

جماليات هذه التجربة اعتمدت على زخرفة المحراب بالنقوش والجص المحفور، وخط الآيات القرآنية عليها بالخطين الكوفي والنسخ، فضلا عن زخرفتها بالخزف كطاسات ذات ألوان جميلة ومتميزة.

يربط الدكتور كوستا ظهور هذه المعالم المعمارية الباذخة بأحداث مهمة في التاريخ العماني، فالفترة التي ظهرت فيها معالم التجربة تعتبر فترة استقرار سياسي دام طويلا، أي هي فترة خلت من الحروب الأهلية بعُمان، وخلت أيضا من الغزو الخارجي عليها.

ويذهب كوستا إلى أبعد من ذلك، إذ يرى بأن الزخرفة في المساجد كانت موجودة منذ القدم، وأن إمحاءها كان بسبب تأثير يد الدهر عليها، فضلا عن الحروب القبلية التي خلّفت بعمان الخراب والدمار.

والحق أن الأحقاد الدينية المرتبطة بالغزو البرتغالي على عمان كانت وراء هدم عدد كبير من أجمل مساجدها، مثلما يعترف بذلك الابن غير الشرعي للبوكيرك قائد الغزو البرتغالي في مذكرات أبيه، والمساجد التي تم هدمها هي:

1- جامع قريات: كتب عن حرقه الفونسو دلبوكيرك: «لقد كانت النار عنيفة ذات لهب، لم تترك منزلا ولا مبنى إلا وأتت عليه، وأتت أيضا على المسجد الذي كان واحدا من أجمل المساجد التي رأيناها».
2- جامع مسقط: كتب عن حرقه الفونسو دلبوكيرك: «أمر دلبوكيرك ثلاثة من حاملي المدافع بأن يقطعوا بالفؤوس دعامات المسجد، وكان مسجدا واسعا جميل البناء، مشيدا في غالبه بالأخشاب التي نحتت نحتا متقنا جميلا، وبه أعمال تجصيص في جزئه العلوي.

3- جامع قلهات: أمر دلبوكيرك بإشعال النار في هذا المسجد الذي يجله المسلمون كثيرا، لأنه كان مبنى كبيرا جدا به سبعة أروقة كلها تحفها ألواح مربعة، وقد ثبتت على جدرانه كثير من أشغال الخزف، وعند مدخل بوابته رواق كبير مقنطر (أي أنَّ سقفه على شكل قوس) وفوقه شرفة تطل على البحر كلها مغطاة بالألواح المربعة، وبوابات هذا المسجد وسقفه كُلها مشيدة بطريقة متقنة، وعندما أشعل فيه البرتغاليون النار لم يتركوه إلا رمادا، فلم يبق منه شيء إلا احترق.

إن معاينة وزيارات ميدانية متعددة قمت بها لبعض هذه المساجد كشفت لي عن اختلاف في النقوش المستخدمة في كل محراب، بل وفي موقع الكتابات المنقوشة والخط المستخدم في كتابة الآيات القرآنية إذ تأتي أحيانا بالخط الكوفي وأحيانا بخط النسخ.

لقد خضعت تجربة النقوش على المحراب في المساجد العمانية القديمة لدرجة عالية من الحرفية، وتوارثت أسر فنية كاملة العمل في هذا المجال، ولفترة تاريخية استمرت ثلاثمائة وخمسين عاما، يحدد أقدمها جامع سعال بنزوى، الذي شيد عام 650هـ، وآخرها المسجد الكبير بنخل الذي شيد عام 994هـ.

والفنانون الذين توالوا على التشكيل الفني والجمالي لهذه المحاريب جاءت مساهماتهم على النحو الآتي:
1- الفنانون علي ووالده طالب وجده شمل بن عمر بن محمد المنحي
– جامع نخل القديم 994هـ
– مسجد العوينة بوادي بني خالد
– مسجد المزارعه بسمائل
– جامع البراشد بسناو 920هـ
– جامع مقزح 1029هـ
– مسجد الغريض بنخل
– مسجد المكبر بنخل

2- الفنان عبدالله بن قاسم بن محمد الهميمي
– مسجد الشرجة بنزوى 924هـ
– جامع بهلا 917هـ
– مسجد الشراة بمنح 922هـ
– مسجد العالي بمنح 876هـ

3- الفنان محمد بن أحمد بن سيف
– مسجد الجناة بنزوى 925هـ

4- الفنان عيسى بن عبدالله بن يوسف بن رمضان
– مسجد الشواذنة بنزوى 936هـ

5- الفنان عيسى بن عبدالله بن مسعود البهلوي
-جامع منح 941هـ
– مسجد حارة البوسعيد 940هـ

ثمة مقارنات عميقة يعقدها الأستاذ باولو . م كوستا، بحثا في جذور ونشأة فن زخرفة المحراب العماني، من بين هذه المقارنات العلاقة بين باب المسجد ومحرابه، بسبب تشابه النقوش والجماليات التي تحظيان بهما معا، مستفيدا من كتاب مرجعي شهير في الزخرفة لديريلك هل Derekhill ومما هو جدير بالالتفات إليه هو التشابه في وظيفة كل منهما الذي أدى إلى تشابه الاهتمام بتشكيل جمالي خاص، حظيا به عبر تاريخ الفن الإسلامي، يؤدي كل منهما إلى عالم آخر يبتعد عن الخارج ومنافعه. الباب الذي يقود إلى دواخل الأشياء ومكنوناتها، كما هو المحراب الذي يقود إلى أن تكون وجها لوجه أمام الجمال الالهي غير المرئي، الباب الذي تدخل عبره إلى البيت والمحراب الذي تدخل عبره إلى الجنة. كما يقدم أيضا مقارنة مذهلة بين جماليات محراب جامع بهلا، وزخرفة المحراب في قبر Alaviyan بهمدان في إيران، الذي يعود تاريخه إلى القرن 6هـ/12 م، في الوقت الذي يعود فيه تأسيس جامع بهلا بعُمان إلى عام 917هـ أي 1511م على وجه التقريب.

الإشكالية في هذه المقارنة تعود إلى الزمن الذي يفصل بين المعمارين، إلا أن كوستا يعيد ذلك إلى التأثير المحتمل القادم من المدارس الكبرى لحافري الجص في إيران على معمار شرقي شبه الجزيرة العربية.
تزين محاريب المساجد العمانية بالطاسات الخزفية، بل إننا عرفنا في عمان بمنازلنا القديمة في صالات استقبال الضيوف، تزيين الصالات بالطاسات الخزفية، كمثل تلك التي زينت بها محاريب المساجد، ولا أعرف إلى أي مدى يقارب الصحة استنتاج الاستاذ كوستا القائل بأن ذلك جاء تأثرا بالساحل الشرقي لأفريقيا الذي عرفه العمانيون جيدا، على وجه الخصوص مدن أونغوانا وجيدي وماخوي وكلوه، حيث استخدمت الطاسات الخزفية في المباني الدينية وفي البيوت أيضا.

لماذا لا يكون التأثير فارسيا؟ وهي، أيْ أرض فارس، الأقدم في علاقتها بعُمان من أفريقيا، إذ أن محراب جامع قلهات مثلما ورد آنفا، الذي أحرقه البرتغاليون في القرن السادس عشر، كان يُزين بالفخار الصيني الملون، وقلهات آنذاك كانت تشكل امتدادا لمملكة هرمز الوثيقة الصلة بالحضارة الفارسية. أيا كانت الجذور البعيدة لزخرفة المحاريب في المساجد العمانية القديمة، إلا أنها حقا قدمت تجربة فنية جمالية متميزة على مدى ثلاثة قرون وأكثر أقدمها محراب جامع سعال بنزوى وآخرها محراب جامع نخل.

كتب الأستاذ ايروس بليسرا واصفا محراب جامع سعال: « نحن أمام واحدة من أعلى الإنجازات مستوى وفنا، تشهد دون أيما شك على خبرة جصاصي القرن السابع الهجري الأتقياء، وبراعتهم في ترويض الجص وفن نقشه، ويضيف: «داخل هذا الإطار الرحب وفي الجزء الأعلى منه على وجه التحديد حفر قوس منكسر محاط بأشكال رائعة النقش، هذا القوس يبدو وكأنه محمول على عمودين محفورين من الجص، وفي وسطه يوجد ختم نقشت فيه أوراق ورد دقيقة الزخرف في داخله كتابة دائرية بين أشكال هندية وزهرية نقرأ فيها من الآية 137 لسورة البقرة: «فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم».

ما إذا كان ذلك لا يزال ناضحا بالجمال أمامنا، أي محراب جامع سعال، فإن محراب جامع نخل الذي هو آخر محراب صممه الفنان طالب مشمل بن عمر بن محمد سنة 994هـ/1586م قد تم هدمه اليوم، وبني محله مسجد جديد دون أن يتم الحفاظ على المحراب ونقوشه في أحد المتاحف، شهادة تحمل روح الإبداع المتميز لتلك الأيام النظرة بوهج الجمال المفقود.

المصادر:
1- مساجد عمان وأضرحتها التاريخية، تأليف د.باولو م. كوستا، ترجمة الدكتور عبدالله الحراصي، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، مسقط، سلطنة عمان 1427هـ ـ2006م.
2- الكتابات في المساجد العمانية القديمة، إعداد د. ايروس بليسرا، إصدار وزارة التراث القومي والثقافة، الطبعة الثانية 1428هـ ـ 2007م
3- المجلد الكامل لأعمال أفونسو دلبوكيرك، ترجمة الدكتور عبدالله حمد عبدالله الشيخ، الناشر: المجمع الثقافي، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة 1420هـ/2000م
4- زيارات ميدانية للكاتب لبعض المساجد موضوع البحث

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى