البحث عن رؤية جديدة بين اللوحة والقصيدة

الجسرة الثقافية الالكترونية
صفاء ذياب
منذ أن بدأ الفنان صدام الجميلي بتقديم أعماله الفنية، وهو يبحث عن المغايرة. بدايةً، بدأها بالمغايرة من خلال التراكيب اللونية التي كان يقدمها في لوحاته، ومن ثمَّ بدأ يشتغل على كيفية إخراج كتاب فنّي من الغلاف إلى الغلاف، كتاب يحمل في كل صفحة منه لوحة مكتملة، وبانتهاء الكتاب تجد أنك أمام لوحة تكتمل من خلال تقليب كل صفحة فيه.
هذه التجربة جعلت من الجميلي مصمماً محترفاً لأغلفة الكتب، فكان فنان أكثر من دار عربية، منها (وراقون) العراقية، (فضاءات) الأردنية، وغيرهما… تجربة التصميم هذه كانت النواة الرئيسة ليفكر في تقديم كتاب جديد، شعري – تشكيلي. وعلى الرغم من التجربة الشعرية المعروفة للجميلي ونشره قصائد في الكثير من الصحف والمجلات العربية، غير أنه ارتأى في أول كتاب شعري تشكيلي ينشره أن يختار نصوصاً للشاعر العراقي الراحل حسين عبد اللطيف تحية ووفاءً له.
الكتاب الذي جاء بعنوان «الريح لا تعرف القراءة» الصادر عن دار «وراقون» ضمَّ اثني عشر نصاً شعرياً، وعشرات التخطيطات التي رسمها صدام الجميلي، ابتداءً من الغلاف الأول وحتى الغلاف الأخير على مساحة 64 صفحة من القطع المتوسط.
حاول الجميلي أن يعمل على فنية الكتاب بالدرجة الأولى، من خلال الفضاءات التي قدمها فيه، والخطوط المتعرجة التي أحاط بها مقاطع النصوص الشعرية، فضلاً عن التخطيطات التي كانت بين النصوص وفي قلبها في الوقت ذاته.
ملقط التأويل
لكن ربما نتساءل، لماذا اختار الجميلي نصوصاً لشاعر آخر ليبني من خلالها كتاباً فنياً؟ وما الذي وجده في هذه النصوص لينتج نصا موازياً لها؟
يعلّل الفنان الجميلي اختياره لحسين عبد اللطيف بقوله، إن مشروع الكتاب كان في البداية يسعى لتقديم مجموعة من الرسوم التي تشتغل على تنويعات تقنية (كولاج وحبر)، وكان قد نوى أن يقدم هذا الكتاب كممارسة مختلفة في إنتاج الكتاب، إذ لم يتم إنتاج كتب تعتمد على الرسم، «غير أني تذكرت الشاعر حسين عبد اللطيف لأسباب مركبة، أولها أن لهذا الشاعر جميلاً في حياتي، وأحببت أن أرد له الجميل، إذ كان ممن يشجعني أيام دراستي الأكاديمية، وقد كان له رأي مختلف في تجربتي. كما أن أن الشاعر لم يأخذ نصيباً كبيراً من الاهتمام، فلم يطبع ما يكفي من الكتب، فضلاً عن المعاناة الإنسانية الكبيرة التي عاشها. والأهم من ذلك كله أنه شاعر مهم وذو صوت خاص ومتفرد، كما أن لوعيه الكبير دوراً في أجيال كاملة من الشعراء والمثقفين، حتى أنني سمعت من يطلق عليه لقب (عزرا باوند العراق)، لقدرته العالية في تشذيب النص وتقليمه». وقد وجد الجميلي؛ منذ زمن، أن لهذا الشاعر رؤية عميقة ومختلفة في تصوراته، فضلاً عن اهتمامه الكبير بالموجودات، فهو لا يسعى للتهويم اللغوي، بل إنك تجد على حواف نصه آلافاً من الطيور والأشجار والجسور والأباريق والمراكب… إنه يلتقط بعينه أكثر من التقاطها بملقط تأويلي.
انقلاب المفاهيم
في بداية تخطيط الجميلي لهذا الكتاب، تفرغ لقراءة نصوص حسين عبد اللطيف، انطلاقاً من مجموعاته «على الطرقات أرقب المارة» و»نار القطرب» و»لم يعد يجيء النظر)، فضلاً عن نصوص متفرقة لم تجمع في كتاب بعد، لكن هل كان لاختيار النصوص رؤية فنية وأدبية؟ الجميلي يؤكد أنه لم يكن للنصوص أي دور في منتجه الفني، بل إن الرسوم كانت خالصة، وهي حرة من أي مقاربات، غير أنه حاول في بعضٍ منها الاقتراب من التواشج، من دون أن يحاول تفسير أو تمثيل النصوص، فـ«الرسوم أسبق من النص، فضلاً عن ذلك فأنا لا أثق بما يعنيه محاولة تصوير النص… أعتقد أن هذا نوع من الإساءة للنص نفسه وللرسم كذلك، إذ لا يحتاج أي نص فني لنص مجاور يقوم بتفسيره، ومقاربته، فالنص مكتفٍ بذاته وأي محاولة قسرية واهمة للتفسير تعني محاولة للهبوط بالنص والصورة معاً، وهذا مستقدم من العمل الصحافي أساساً لملء فراغات تصميمية». النص؛ حسبما يشير الجميلي، ليس نصاً علمياً يراد له أن يوصف للتعريف أو التفسير والشرح، بل هو نص جمالي مكور منطوٍ على ذاته. و»قد جاء اختيار النصوص بالاستعانة بصديق أثق بقدرته الأدبية العالية، لكوني لا أملك الكثير من كتب الشاعر لأنني أعيش في عمان منذ سنوات، إذ تم اختيار اثني عشر نصاً من كتب مختلفة».
يشتغل الفنان الجميلي على المفارقة في اللوحة التشكيلية منذ سنوات، وهو ما أراد أن يعيد إنتاجه في تخطيطات هذا الكتاب، غير أن المفارقة الأولى التي يتحدث عنها الجميلي هي إنتاجه كتابا لرسوم فنية تستضيف نصوصاً لشاعر، أي عكس ما يتوقع دائماً، من أن تستضيف النصوص تخطيطات لفنان ما.. إلا أن الفكرة انقلبت هنا، فقد كان الرسم والتصميم هما المسيطران، إذ لم يقهر التصميم الصورة مطلقاً، بل أخذت حريتها الكافية لتكون مهيمنة الكتاب. كما كانت الرسوم نوعاً من الممازجة بين التخطيط والكولاج، التي تشيد نوعاً من الفانتازيا والغرائبية، إضافة إلى أن الرسوم ابتعدت لتتداخل من النص المطبوع وتتخلله، فضلاً عن رسوم حرة خالصة اتخذت صفحات متعددة، أيضاً فإن التصميم العام والمواد التي طبع منها الكتاب هي مواد مختلفة عن الكتاب العادي، من حيث جودة المواد وجدة التصميم، إذ طبع العمل على ورق فني وبحجم مختلف مع ورق شفاف، ما يمنح الكتاب شكلاً جديداً، فالكتاب هنا يسعى لقيم بصرية عالية، عبر المواد والصور فضلاً عن النصوص التي نجدها نوعاً من البناء البصري.
فخاخ الشعري والبصري
إلى أي حدٍّ يمكن للنص الشعري أن يعطي روحه لينتج الفنان لوحة مقاربة أو مفارقة له؟ ربما يصحُّ هذا التساؤل على نماذج كثيرة، لكن ليس هذا الكتاب مجالاً له، فالمقاربة بين الفضاءين تكون مقاربة بين عالمين متباينين، عالم الكلمات وعالم الخطوط، وفي ضوء ذلك يعتقد الجميلي أنه لا يوجد أي رابط بين الفضاء الشعري والتخطيط سوى الخيال والخط، فلا وجود لعلاقات واضحة بينهما، «إن دوري كرسام لا يدفعني إلى تفسير نص أو تأثيث كتاب، فالرسوم ليس تأثيثاً للكتاب، بل هي متنه الأساس، وهي مادته الأولى وخلاصته، وهي نوع من الإضافة للكتب، الذي أسعى من خلاله لتربية عين القارئ على الصورة وأهميتها جمالياً، دورها بوصفها نصاً قابلاً للمراقبة والتأمل، بعيداً عن الحشو والتمثيل، إذ لا يصور الكتاب أعمالاً فنية، بل هو عمل فني خالص، وهذا يدعم فكرة أكبر وهي إمكانية وصول العمل الفني للقارئ في أي مكان، والاقتراب منه وتدريبه على فهم الرسم، لاسيما وأنا أعمل على أسلوبي الخاص الذي يتمتع بشيء من الغرابة والجدة التي لم يعتد عليها القارئ العادي».
أما الرابط بين النصين: الشعري والتشكيلي، فيؤكد الجميلي أنه المحبة فقط، محبته للشاعر وإخلاصه له.
ربما تكون هذه المحبة منبعاً آخر للبحث عن حفريات النص الشعري والبحث عمّا وراء المفردة للخروج بوقائع فنية أخرى، ما بعد الرسم وما قبل القراءة، إلا أن الجميلي يشير إلى أن محاولة مثل هذه في بحث الرسام عن خلفيات لغوية، تشير إلى سلوك تخريبي أكثر منه جماليا، إذ لا تعني كلمة شجرة في نص الشاعر شجرة بمعناها المجرد، ولكن هذا لا يعني عدم إمكانية الاستثمار بشكل حساس لكل ما يدور في نص الشاعر، فهذا يتطلب تحدياً كبيراً من الرسام لكي لا يقع في مشكلة التقرير والمحاكاة، وهنا يتماثل التحدي في قدرته على إعادة إنتاج الحس العام للنص الشعري، وهي القدرة التي لا تتسنى لكل من يحاول تصوير نص شعري، إذ يمكن أن يبتلع النص الشعري عمل الرسام وفرغه من قيمته، أو بالأحرى يمكن للنص الشعري أن يوقع الرسام في فخاخه.
المصدر: القدس العربي