«البحث» للفرنسي ميشيل هازنافيسيوس: ملحمة سينمائية ومحاولة لإنصاف الشعب الشيشاني

الجسرة الثقافية الالكترونية
حميد عقبي #
فيلم «البحث» للمخرج الفرنسي ميشيل هازنافيسيوس، الذي سبق ان نال شهرة كبيرة عام 2012 مع فيلم «الفنان»، الذي حصد جوائز دولية كبيرة، هذا العام يعود مع فيلم قوي يغوص بنا في حرب الشيشان الثانية عام 1999، من خلال قصة إنسانية مؤثرة بطلها طفل لا يتجاوز عمره 9 سنوات، يتم قصف قريته فيهرب مع رضيع صغير هو ابن اخته الكبرى، بعد أن يشاهد قسوة الحرب من خلال مقتل ابيه وأمه.
يضع الطفل قرب منزل شيشاني ويخوض رحلة الضياع إلى أن يقع في يد كارول موظفة في مجلس حقوق الإنسان بالاتحاد الأوروبي ـ تتقاطع قصة البحث مع شخصية أخرى لشاب روسي تمسكه الشرطة بتهمة تناول الحشيش وتزج به إلى الجيش الذي يقاتل في الشيشان؛ في المعسكر يحدث التحول لهذا الشاب الذي لم يكن يعرف الحرب والقسوة ولذة القتل، يتعرض الفيلم إلى كشف حقائق مهمة كون الحرب الروسية ضد الشيشان لم تكن للقضاء على الإرهاب، بل كان ضحيتها أبرياء واتسمت بالقسوة وتخريب الديار واغتصاب النساء هكذا تتلو كارول تقريرها بعد سماعها لشهادات حية ومعاصرتها للحقيقة خلال قراءتها لتقريرها، نرى المجلس المعني بحقوق الإنسان خاويا من أعضائه، كل واحد في عالمه لا يبدو أحد مهتما، تكاد تنطق الكلمات بصعوبة تبكي من الداخل لهذا الإهمال الدولي لقضية إنسانية كبرى.
إن نقل حقائق عن جرائم الحرب مهمة صعبة، لكن المخرج نجح في تسليط الضوء ونقلنا إلى الحدث لنعيشه لنشعر به لنحس كل شخصية وكل وجه إنساني يريد قول الكثير، الشهادات تأتي متشابهة متقاربة، هؤلاء الناس السكان يعيشون في قرى فقيرة يحبون الرقص والموسيقى والحياة كغيرهم، كلما حدث هجوم روسي ودخل الجند الروس إلى قرية تتحول الحياة إلى جحيم، تشتعل النيران في المباني السكنية والبيوت، وتتناثر الجثث هنا وهناك ـ البعض من سكان هذه القرى يهربون في شكل هستيري، لا يحملون معهم من متاع الدنياء شيئا، كل ما يهمهم النجاة من هذه القسوة، فمن لم تصبه القذائف يقتله رصاص الجند القساة، لا رحمة لا فرق بين شيخ كبير أو امرأة أو طفل، الجميع متهم بالإرهاب والتعامل الوحيد معهم هو القتل.
هذه الممثلة الرائعة برنيس بيجو، التي قانت بدور كارول تدخل أيضا كقوس ثالث إلى جانب الطفل حاجي والشاب الروسي، الذي يتم تجنيده، نحن إذن نعيش أربعة مسارات، مع أربع شخصيات بهويات مختلفة، كل واحدة من هذه الشخصيات علينا اكتشافها من الداخل ومتابعة خطواتها، كونها في عملية بحث في عمقها.
أولا هذه الأقواس، تعجبني فكرة الأقواس الأربعة التي تحوي ريسا أخت حاجي كقوس مهم، فهي في عملية بحث مستمر، هذه الاقواس ليست متباعدة أو متنافرة، هي في احتكاك دائم منذ اللحظة الأولى تتداخل وتلتقي مع بعضها بطرق مباشرة وغير مباشرة، تتكشف لنا وتنصهر لتصنع لوحة مفزعة، كون هذه الحرب سوف تجعل عدة متغيرات جذرية بعضها سيكون صادما وماسخا، كما حدث للشاب الروسي الوديع، الذي حين أخذته الشرطة كان يحمل على ظهرة آلة موسيقية، حتى لا يسجن تم زجه في المعسكر.
خلال الرحلة من المدنية إلى الحياة الوحشية ينظر من خلال نافذة القطار يرى بعض الشباب في مثل عمره وهم يدخنون ويضحكون.. كان مثلهم لكن هذه الرحلة ستحوله في الأخير لوحش كاسر، هذا التحول جاء بالتدريج في البداية رفض هذا المسخ، فكان جزاؤه الضرب والإهانة، ثم حاول التعايش مع موتى الحرب، هؤلاء الجند الذين قتلوا في الحرب، هذه الجثث الهامدة المشوهة يتم إدخالها في صناديق لتصديرها مرقمة إلى أهلها كشهداء وأبطال، حسب توصيف القائد العسكري. في المعسكر تتم معاملة الجند بقسوة، الإهانات والضرب، لذلك عندما تنضج القسوة في شخص يتم الزج به إلى الحرب، كون المهمة هي القتل والقتل من دون رحمة.
في أول حدث لهذا الجندي بقتله شخصا يصاب بالفزع يرتبك يسخر منه زملاؤه ثم يضحك هو على بلاهته، لنراه في الأخير يصرخ، يضحك، تغيرت ملامح وجهه اندثرت تلك التعابير والسمات الطفولية لتحل محلها سمات السفاح القاتل الكاره للحرب أيضا، كونه يود الرجوع إلى المدنية ليشرب ويعاهر النساء ويستمتع بالحياة حسب توصيفه.
الطفل اليتيم حاجي الهارب من قبح شبح الحرب، يتوه كمشرد مع الكلاب الضالة يرفض الإقامة في مخيم للصليب الأحمر يرهبه الحرس وصورة السلاح بيدهم، يفزعة منظر أي جندي، يفضل أن يكون أخرس، من خلاله نكتشف ببساطة ما تخلفه أي حرب اليوم أو غدا أو حرب الأمس، بيوتا مدمرة وأطفالا قساة شردتهم الحرب يسلبونها كسرة خبز عثروا عليها بالصدفة في المزبلة، هذه رحلة التيه الضياع والحزن والصمت، خلق المخرج من خلالها لوحات مفعمة بالحزن نحسه جيدا نخاف عليه. ثم بالصدفة يلتقي حاجي مع كارول هذه المرأة تحمل هموما كثيرة في رحلة البحث عن شهادات مع نساء ضحايا الحرب، توثق وتعد التقارير ليأتي لها نموذج حي قوي، لكنها بحاجة إلى اكتشاف، تعطي حاجي في البداية بعض الأكل ثم تعود لتأخذه معها إلى البيت، تحاول التخاطب معه هو يلوذ بالصمت، في اليوم التالي تعيده إلى مخيم الصليب الأحمر يهرب ثم ينتظرها عند باب بيتها تعود للتعايش معه، تحاول اقتحام هذا العالم، الطفل يتعايش مع الموسيقى يستمع لها كل وقته تشعر كارول بالعجز عن فهمه، لا تدري هل تتركه لمصيره؟
كون هناك مئات بل الآلاف من أمثاله يهيمون في الشوارع يعانون التشرد والحرمان، تخوض التحدي وفعلا تنجح في الأخير، خصوصا عندما يتكلم ببعض الكلمات، ثم نراه في مشهد وحده يرقص بمهارة رقصة شيشانية شعبية على موسيقى فرقة (بي جيز) البريطانية، تنظر اليه بتعجب يصبح التعامل معه أكثر سهولة فليس هو المتوحش والبدائي، وكارول ليست هي عامل التغيير، الطفل بداخله يحمل عمق وذكاء وصبر هذه الارض، وكذلك ثقافة وحبا للحياة، وفجأة يأتي حاجي إلى مكتب كارول ليقدم شهادته عن الحرب، وهي من أقوى الشهادات تأثيرا، لذلك تقرر كارول تبنيه وعندما تسعى لذلك تكتشف أن اخته الكبرى تبحث عنه لتعيده إلى حضن العائلة، تدمع عيناها وهي تحبس بكاء حب عميق، كانت تظن ان تقريرها سوف يغير ويحرك المساعي الدولية لإنقاذ شعب الشيشان، لكن المنظمة الدولية استقبلته في فتور ولا مبالاة، أدركت حجم المشكلة إن قدر هذا الشعب أن يخوض هذا المصير وحده.
لعل المخرج حاول قدر الإمكان، من خلال هذه اللوحات الدرامية بعيدا عن أسلوب التوثيق والقطات الأرشيفية، ان يخلق الإحساس بالملحمة، يتضح الشعور بالإطار الملحمي، من خلال الجندي الشاب الروسي الجامد المسالم في المعسكر، هؤلاء القادة يمسخونه، يتجرع منهم يوميا الذل والضرب والسخرية والقسوة، هو بمثابة مادة خام تم تجريدها من نواياها الطيبة من روحها الصافي الإنساني فيتحول هذا التحول المرعب الذي ينضج في الجبهة.
لسنا هنا أمام محاكمات لأفراد هؤلاء الجنود ضحية القادة الكبار والسياسات العليا التي تخلق هذا الرعب، وكذلك المنظمات الدولية التي تصمت على كل جرائم القتل والإبادة في مشارق ومغارب الكون، الجميع هنا ضحايا لعبة قذرة يصنعها الكبار اسمها الحرب.
المخرج في هذا الفيلم يغوص في الذاكرة، ذاكرة الحرب فهو يبحث ليس من أجل الإجابة وتقديم تقارير وصور من الماضي، كونه يبحث عن اسئلة ليتركها من دون إجابات، الفيلم بمثابة استكشاف لأسئلة كثيرة، ولعل نهاية الفيلم تنذر باستمرارية الحدث، أي ستكون هناك ضحية أخرى عندما يجد الجندي الكاميرا ويبدأ التصوير يظنها لا تعمل، ثم يزيل الغطاء ليصور أول لقطة.. بقرة ميتة ومتعفنة النهاية تشبه البداية ـ يركض ليصور رفاقة يلعن الحرب بكلمات قبيحة.
في أحد الحوارات الصحافية يقول المخرج إنه اختار موضوع فيلمه عن النزاع الشيشاني، كونه مجبرا على ذلك، ليس لمجرد عكس تعاطف، ولكن لسوء معاملة التاريخ لهم، خصوصا في فرنسا كون الكثير يعتقد أن كل الشيشان إرهابيون خطرون، وإن ما حدث هناك حدث في جورجيا ويحدث الآن في أوكرانيا، ثم يؤكد على وجود الجانب السياسي، لكن له نظرة إنسانية بوضع قصص عديدة عن سوء المعاملة من قبل القوات الروسية داخل الجيش الروسي، وكذلك التجاوزات على الشعب الشيشاني، وكذا اظهار لا مبالاة المجتمع الدولي وعجزه عن ردة فعل إيجابية تجاه الحروب وجرائم هذه الحروب، كما تطرق ايضا لنقطة مهمة هي أن الذين يعملون في المنظمات الدولية من المراقبين، خصوصا الذين يعدون التقارير، بعض أو اغلب هؤلاء لا يملكون أو ينقصهم الكثير من الشفقة، هنا حاول المخرج تمرير رسالة إلى هؤلاء عبر النموذج كارول، التي تخوض صراعا داخليا أيضا مع معايشتها للمعاناة واحتكاكها المباشر مع حاجي تكتشف في الأخير اختلاف النظرة إليه ليس كمجرد نموذج، هي فعلا موظفة تؤدي عملها، لكنها أيضا إنسانة، وفعلا كان المخرج يتعامل مع الشخصيات بنظرة إنسانية تنجح في إثارة اهتمامنا إليها، فالشهود مثلا نحسهم يتحدثون وهم بجانبنا وأمامنا نود أن نمسح تلك الدموع، فمثلا ريسا أخت حاجي منذ البداية تكون شاهدة على قتل عائلتها، ثم تخوض رحلة البحث لتجد ابنها الرضيع، ثم تستمر في البحث عن حاجي إلى ان تجده، ورحلتها لم تكتمل هناك أيضا شقيقها الكبير ستخوض رحلة أخرى للبحث عنه، أي أن هذا المسار مسار البحث لم ينته.
المأساة حاضرة.. النهاية ليست سعيدة تماما، كما أن الفيلم يعرض أيضا نموذج رئيسة الصليب الأحمر هيلين في أحد المشاهد، لا تدري ما تقوله لكارول تكون مرهقة تجد صعوبة أيضا في التعامل مع الأطفال، تتلقن درسا من ريسا التي تنجح في كسر الحواجز وتقليل العنف بين الأطفال في المخيم، هؤلاء لا يريدون رئيسا يريدون من يفهمهم ويحس بهم.
……..
القدس العربي