البطلة المجنونة تحمل العَلَم على ظهر حمار

الجسرة الثقافية الالكترونية

*سارة ضاهر

المصدر: الحياة

 

قد ترتسم على وجهك ابتسامة عندما تقرأ عنوان هذه الرواية العراقية. وقد تحيد عنه رافضاً ما تظنّ أنّه المستوى المتدنّي الذي آلت الرواية إليه. لكنك تدرك، أنه ليس من السهل على المواطن العراقي أن يناشد عقله وسط واقع وبلد تائهين أكثر منه. يخاطب نفسه، ويسعى بكل منطق ألِفه وعمل به، الى استعادة شيء من وعيه وإنسانيته، لكنه عبثاً يسعى، ولا ينجح في استعادة ذاته. والذات التي دخلت مستشفى المجانين، هنا، في رواية «أحببت حماراً» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) للكاتبة العراقية رغد السهيل، قد تكون تجسيداً للوطن العراق. ذلك الوطن الذي ما لبث أن خرج من صراع حتى دخل آخر أعمق وأشد إيلاماً. يبدأ الميتا – سرد عندما يعثر بائع الخضار زكي، على ملف قرب محلّه، ولأنه لا يجيد القراءة والكتابة، يلجأ إلى الدكتورة أمل ويسلّمه إليها. إنها بغداد العاصمة… في الملف، أو القصة، أو الرواية… أو حدث ما، لم يحدث وربما حدث على تلك الصفحات. فالشكل الفني غير واضح المعالم بعد. قد يشبه شكل بغداد الحديث.

مستشفى المجانين إذاً، هو ساحة الرواية، والحمار بكل صفاته وخصاله هو الحبيب التائه عن أرضه وعشيرته. أما بقية الشخصيات، فلم تكن سوى شاهدة على حضور الحمار في الحقيقة. ومختلف الأمكنة الأخرى التي وردت في الرواية، يكفيها مرور الحمار بها كي تجد لنفسها مكاناً على صفحات «السهيل».

 

شخصيات منكسرة

وعلى رغم صدمة القارئ بالنص أمامه، إلا أنّ ما يعتريه هو شعور مزدوج من الحزن والإعجاب. حزن على شخصية عراقية معاصرة، فقدت صوابها من كل ما يجري حولها، فيتكسر السرد والزمان، وتتحوّل إيديولوجيا النص إلى ما يشبه نقيض المألوف. ويغيب البطل الإنسان ليحلّ محله حمار. ذلك كله لم يكن ليحضر لو أن حالة البلاد الطبيعية هي التي تنعكس على حال مواطنيها. وإعجاب بمساعي امرأة عراقيّة للوصول إلى الحلّ السليم والصحيح الذي ينقذ البلاد.

«أحببت حماراً»… هذا ما قالته البطلة «أمل» للجنة التحقيق، وما أكدته لهم في مستشفى الأمراض العقليّة أيضاً، وهو كل الحقيقة… حمار المرحوم «عمو زكي» بائع الخضار، الذي قتل بثلاث رصاصات من دون أي ذنب. فيئنّ عليه حماره، أنيناً بأمواج متقطّعة، في الوقت الذي يدفن فيه الإنسان أخاه من دون رفة جفن. وبعد مقتل بائع الخضار زكي، اضطرت زوجته الى الزواج من أخيه لتتوخى الدواء باهظ الثمن لأولاده المتخلفين عقلياً، إلا أنه يرميهم في مستشفى الأمراض العقلية، فتقتله بدورها.

هكذا بدأت قصة أمل مع الحمار، هي ابنة تلك البلاد العجيبة. ولا أحد قادراً على تجاوز حكايتها تحت ذريعة حب الحمار. النظرية النسوية الحديثة تقول: إذا انشققت عن الجماعة فلا يعني أنك لست منها، عليك أن تجد من هو مثلك لتصنع لغة خاصة، بعيداً من الخنوع. وفي حب الحمار كانت أمل وحدها، لكنها لم تكن وحدها.

شخصية رئيسة أخرى يرِد ذكرها في الرواية: بابا نويل العراقي، الرجل الذي أصيب بانكسارات نفسية كثيرة أدّت إلى فقدانه عقله، اختفى أيضاً، كما اختفى الحمار. ربما لأن الأطفال سخروا منه، فهو لم يجلب لهم الهدايا يوماً. بكى وغاب، شأنه شأن كل الباكين في العراق. كذلك شخصية شروق المصابة بورم خبيث في الكبد وهو يتدلى إلى الأمام، فتضطر إلى حمله بيديها. وشخصية لطيفة التي فقدت ابنتها بسبب إصابتها بمرض خبيث. وشخصية هيلة ودموع الصغيرتين واللائي يبيعهنّ فاضل ويقبض الثمن ليرميهن في عالم الدعارى. وصديقتها ليلى التي استأصلت بيت الرحم. وأخوها الذي ترك البلاد وهاجر. وحكاية أم صابر التي كانت تبيع قناني الغاز، وعندما سقطت على رجلها قناني الغاز قررت أن تترك بيع الغاز وتبيع لعب الأطفال. والخاتون بؤرة الحدث السردي الذي تعتمد فيه الكاتبة الكثير من الرموز والدلالات…

 

رموز السرد

مقابل كل تلك الشخصيات، تظهر شخصية الحمار النظيف، الوسيم، «المحترم»، صاحب المبادئ الذي يرفع العلم… وتظهر معها رموز السرد وإشاراته السياسيّة والاجتماعية. كظهور الغول الذي أقبل على بغداد، كانت له ثماني عيون، أربعة منها في وجهه، وأربعة أخرى خلف رأسه. وإذا ما نام واستغرق في الحلم فتح عينين، واحدة من الأمام والأخرى من الخلف. كان يسير في نومه أحياناً ويمارس هوايته المفضلة في التهام آذان الرجال، حتى نبتت له آذان كثيرة توزّعت على جسده، من يومها صار الذكور يولدون إما بآذان قصيرة جداً أو بآذان صمعاء أي ملتصقة برؤوسهم أو من البلاستيك، لأنه قام بالتهام الأجنّة أيضاً…

اختفى حمار المرحوم زكي، بعد مقتل صاحبه. لذا، فهو اليوم حمار أمل. البطلة التي ما زالت ترفع العلم، علم الطفل تمام، علم الكل، والأنا ذات الأجزاء الممزقة. الأجزاء المتداخلة بعضها ببعض بين حكايات دائريّة متقاطعة ومتفرّغة أيضاً. أكثرية تسودها أقلية. ليس هذا فحسب، بل تمادوا وغيّروا اسم هذه البلاد، مختطفين أنوثتها التي تحمّلت الكثير من حماقاتهم، لتبكي العراقية منذ ذلك اليوم بكاءً لم ينقطع، وتئنّ أنيناً يشبه أنين الحمار المفقود.

تنتظر «أمل» عودة حمارها لتتجوّل على ظهره رافعة العلم، وتعلن للأقلية أنّ هنا الجمهورية العراقية. وتتفاقم الأحداث، وتُتهم أمل بالجنون لكونها أستاذة جامعية وتحب حماراً. وتودع المصحة العقلية. إلا أنّه، بعد الاختبارات، يثبت أنّها بكامل قواها العقلية.

رواية مؤثرة تشق مجراها بعفوية إلى فكر القارئ بلا إكراه أو ادعاء. وجمال الفكرة وجديدها، يكمنان في ما تتضمّن من مفارقات، ومن نقد لاذع لواقع شعب وسياسة مسؤولين. وتنتهي الرواية مع بشرى إيجاد الحمار يدور حول حديقة الأمة. وما تحمله تلك النهاية من دلالات واستشراف بعودة العراق، عراق جديد، مهما ضلّ أهله وتاهوا عنه، فهم لا بدّ واجدوه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى