التاريخ الإيطالي ولغة البكم

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-
تصدر قريباً عن منشورات الجمل في بيروت، الترجمة العربية لرواية الكاتب الإيطالي إرّي دو لوقا «جبل الرب» (نقلها إلى العربية عن الإيطالية نزار آغري)، وهي الرواية الأولى التي تترجم لهذا الكاتب الذي عرف خلال السنين الماضية، كيف يتبوأ المشهد الروائي لا في بلاده وحسب، بل أيضاً المشهد العالمي، حيث حاز العديد من الجوائز الأدبية. الزميل إسكندر حبش قدم للطبعة العربية بمقدمة طويلة وافية حول الكاتب وأعماله، هنا مقتطفات من هذه المقدمة..
غريب هو عالم الكاتب الايطالي إرّي دو لوقا. لقد عرف عبر عدد من الروايات كيف ينسج عالماً متماسكاً، يرتكز في جزء منه على سيرته الذاتية المليئة بالأحداث والنضال والمنفى. وما الغرابة هنا إلا هذا السحر الذي يقودنا اليه من كتاب الى كتاب، لا ليخبرنا فقط عن تاريخه الشخصي، بل لننظر معه الى فترة من التاريخ الايطالي الحديث ، لكن من دون أن يسقط ولا في أي لحظة في متاهة اللعبة التاريخية المبسطة التي تروي مجرى أحداث فقط. التاريخ عنده يأخذ شكل المواجهة مع الكائن، إنه أيضاً تلك اللحظة التي تتيح له أن يعيد التفكير في هذه الحياة بشقيّها: العام والخاص. قد نفهم ذلك كله فيما لو نظرنا الى سيرته الذاتية: ولد إرّي دا لوقا في أحد الأحياء الشعبية في مدينة نابولي، العام 1950، ومنذ مطلع شبابه انخرط في النضال السياسي مع حركة «النضال مستمر»، وهي إحدى التنظيمات اليسارية المتطرفة التي أسسها أدريانو صوفري (الذي يقبع اليوم في السجن لاتهامه بمسؤولية التفجيرات التي حدثت في أواخر السبعينيات). اتُهمت هذه الحركات باختطاف رئيس الوزراء السابق ألدو مورو وإعدامه، ومن يومها بدأت الحكومات الايطالية المتعاقبة مطاردة من تبقى من هؤلاء المناضلين، الذين اختاروا المنفى بدلا من السجن. فما كان على دا لوقا إلا أن غادر ايطاليا بدوره ليعيش متنقلا ما بين الهند وفرنسا، قبل ان يقرر العودة الى دياره لعدم ثبوت مسؤوليته عن أي من هذه الأعمال العسكرية، ليعمل في مهن عديدة: ساعي بريد، نادل في مطعم، بنّاء، وهي المهنة التي لا يزال يمارسها لغاية اليوم على الرغم من النجاح الأدبي الذي يعرفه.
مسارات متعددة
من هذه المسارات المتعددة، ينطلق الكاتب الايطالي في تشكيل عمارته الأدبية التي تتراكم فيها الطبقات المميزة، ومن هذه الطبقات رواية «جبل الرب» («مونتيديديو») التي حازت في خريف 2002 جائزة «فمينا» الفرنسية لأفضل كتاب أجنبي، كما اختيرت في العام عينه كأفضل عمل إبداعي إيطالي. رواية، لا نستطيع قراءتها الا بكونها صدى لهذا «النضال»، على الرغم من أنها لا تسقط ولا في أي لحظة في الخطاب المباشر، بل إنها تنجح دائماً في المحافظة على هذه القوة الأدبية التي تغلفها.
أول ما يشدنا ـ ومنذ البداية ـ في رواية «جبل الرب»، هي هذه الأهمية القصوى التي يفردها الكاتب لـ«بُكم التاريخ». إذ إن أبطاله هم من أولئك الذين لا نسمعهم، او ببساطة «من الذين لا صوت لهم». من هنا نجده يتمهل في التقاط هذه «الذاكرة الأدبية» التي تنزلق في هذه الأحياء الشعبية، المنسيّة من قبل الجميع، والتي لا تشكل عادة نقطة اجتذاب للأدب الحديث. فما يقوم به الكاتب هو تسيير نظرتنا نحو هؤلاء «المتواضعين» من دون أن نغرق أبداً في لعبة إثارة الشفقة او التواطؤ مع وضعهم الاجتماعي، أو حتى مع هذه السهولة التي يقترحها عادة كل موضوع مماثل.
يشكل راوي الكتاب الشخصية الرئيسية وهو مراهق، قليل الكلام، لكنه كثير الملاحظة والمراقبة، يكتب كل مساء وبشكل سري انطباعاته عن يومه بكل أحداثه وتفاصيله. هذه الانطباعات أو الملاحظات هي التي تشكل كل مادة الرواية، التي تأتي على شكل يوميات (وإن كانت لا تحمل تواريخ لأيام). من هذا الاقتراح الروائي، تجعلنا الرواية نقرأ نص أحد هؤلاء البكم، أي أن وجهة النظر التي يتم تبنيها، تدعونا وحدها إلى «هذا الجانب الآخر»، أي الى جانب أولئك الذين لا يملكون القدرة على الكلام، مع العلم أن الراوي في واقع الأمر، لا يفعل شيئاً سوى إسكات نفسه، يكتب قائلا: «علموني أن لا أطرح الكثير من الأسئلة وأن أخفي حشريتي… أرغب في أن أقول ما تعلمته في نومي، لكنني أصمت… أصمت كي لا أقول الحماقات…»، أو أيضاً: «إنها أفكار بكماء لا تستطيع ماريا أن تعرفها… أنا أيضاً أميل اليها لكنني لا أعرف أن أقولها بطريقة صائبة، لذلك أصمت». من هنا وعلى الرغم من هذا الصمت المفروض، نفهم تصاعدياً انه يكتب بالضبط لأنه لا يتكلم، أي تنتهي الحكاية حين يجد أخيراً صوته الخاص به.
لغة الأبكم
إزاء ذلك كله، ثمة سؤال يستحق أن يطرح نفسه: بأي لغة يختار هذا الأبكم أن يكتب؟ سؤال مشروع طالما يبدو أن دو لوقا يضع مسألة اللغة في قلب اهتماماته الروائية؛ أي أن رواية «جبل الرب» تفسح حيّزاً كبيراً للحديث عن هذا الانشقاق الواقع ما بين «اللغة النابوليتانية» وما بين اللغة الايطالية. مشكلة حقيقية تجتاز جزءاً كبيراً منها وإن كنّا نلاحظ ان بعض الشخصيات الأخرى تحاول مدّ الجسور ما بين اللغتين، تماماً كأب المراهق «الأبكم» الذي يعبر عن نفسه مباشرة عبر لهجته المحلية بينما كان يتعلم الايطالية. «لغة نهار الأحد». شيئاً فشيئاً. بيد ان هذه اللغة الثانية تبقى بالنسبة اليه لغة شبه غريبة، إنها لغة الناس «الذين يتعلمون في المدارس»، إنها لغة المناسبات الكبرى. وعلى الطرف الآخر نجد ابنه الذي يملك «هوية لغوية مزدوجة حقيقية»: يتكلم النابوليتانية في كلامه الشفهي اليومي، والايطالية حين يكتب. فإن كان الشعب يعبر بلهجته المحلية أي بلغته الحيّة «التي يشعر معها بالراحة والطمأنينة» لأنها لغة الشارع والصراخ، فإن الراوي يختار أن يكتب بالايطالية، وليس الخلاف هنا مجرد خلاف روائي بل أكثر من ذلك: «أعرف ان الايطالية هي لغة وديعة إلا أنها تبقى لغة الكتب، أكتب بالايطالية لأنها لغة صامتة ولأنني أستطيع أن أضع فيها أشياء يومي، البعيدة عن ضوضاء اللغة النابوليتانية».
ما يقترحه الراوي اذاً هو الكتابة بلغة صامتة، من هنا لا يبدو الخلاف سهلا، على الرغم من ان الراوي يحيل كل شيء، ولو ظاهرياً، الى مشكلة «البكم». ومن هذا الحيّز، يتحول الدفتر الذي يكتب عليه انطباعاته الى «زمن التجربة» والى مختبر يكتشف عبره «زمنه» الخاص الذي يقوده في النهاية الى اكتشاف القدرة على الكلام. لذلك قد نخطئ كثيراً في ما لو اعتبرنا ان الدفتر ليس سوى مجرد دفتر مسودة. فالنص الذي نقرأه ليس تخطيطاً أولياً أو حالة تمهيدية لنص سيجيء في ما بعد، إنه النص الذي علينا ان نبحث فيه عن هذه الكيفية في كونه تلك القوة الحقيقية للمتقاطرات، أي تسلسل الأحداث التي تقوده في النهاية الى اكتشاف صوته، الى اكتشاف هذه القوة المعبرة.
للوهلة الأولى، لا تبدو الشخصيات التي تسكن حي «مونتيديديو» (جبل الرب) في نابولي أي الشخصيات التي تسكن الدفتر، مثلما تسكن حياة الراوي اليومية ـ وكأنها تستطيع التحرر من استدارات اللغة هذه، على الرغم من أن هناك الكثير من الفقراء السائرين في شوارع ذلك الحي: «لدرجة إن أردت أن تبصق أرضاً فلن تجد مكاناً لذلك من كثرة الأقدام». أشخاص يسيرون وينتظرون بصمت بعيدا عن هواجس اللغة. صمت هو الوجه الآخر للبكم، لدرجة تشعر معه أن الوجود يستحيل أحياناً الى نوع من الخدعة يشعرك بالعار: «إننا أحياء عن طريق الخطأ، موجودون بالخفاء عن الله» يقول أحد الراشدين المقربين من الراوي. من هنا ثمة سؤال آخر يطرح نفسه: اذا كان الصمت يلف المكان واذا لم يحدث أي شيء ولم يقل أحد أي شيء، فممّ عندها تتألف المادة الروائية عند إرّي دا لوقا في كتابه هذا؟
النضج والنضال
إن استطعنا التحدث عن حدث ما، نجد أن هذا الحدث بأسره يتشكل من عمل بطيء لما يمكن أن نسميه «بعملية النضج». فكل القصة تنحرف عن كل أنماط انتشار «الموتيفات» لتقف عند حدود المشاهدة التي تتطور مع تطور شخصية الراوي. من هنا، قد تكون القصة الوحيدة هي قصة لعبة «المرتدة» (سلاح قذفي من خشب يستعمله الاستراليون الأصليون، من خصائصه أنه يرتد الى قرب مطلقه اذا لم يصب الهدف)، التي تعطى للمراهق، لتشكل أحد خطي الحكاية. كل مساء كان يذهب للتدرب على هذه اللعبة بعيداً عن أعين الجميع، ليقلد بلا توقف حركة الرماة، من دون أن ينجح في النهاية في الوصول الى هدفه في ان يصبح رامياً ماهراً، اذ «تتجمد» حركته في النهاية. من هنا ان استعارة هذه الحركة لا تصل الا الى القطيعة النهائية، أي بانتظار حدوثها.
اما الخط الثاني الذي يوجه السرد، فهو تنويع آخر على هذا «الموتيف»: انها حكاية رافانييللو، اليهودي الأحدب الذي نجا من معسكرات الاعتقال، والذي كان يشعر بأن جناحين ينبتان في ظهره. هنا أيضا تأخذنا هذه الحكاية الى قرب حدوثها، أي الى لحظة توقعها: «في الليل، تقرقع عظام الجناحين في حدبته، يحاولان ان يتحركا ويشعرانه بالألم. سيحدث ذلك عما قريب». قصتان لا تمثلان سوى «الوعد»، الوعد القريب بالطيران، وهي الفكرة التي تتأسس عليها الرواية وتحركها. لذلك تبدو الكتابة وكأنها تلعب دور المحرك للرمي كما المحرك للجناحين، وبخاصة ان لعبة المرتدة قد تبدو بمثابة تنويع او استعارة لشكل الجناحين اللذين يطيران. هل هو الطيران عن الواقع صوب أفق جديد؟ سؤال أساسي تأتي الرواية لتطرحه، وليشكل فكرة عزيزة على قلب دو لوقا، أي تغيير الواقع، ألم يكن «نضاله» السياسي من أجل ذلك؟.
«جبل الرب»، ليست في الواقع الا قصة هذا النضج وقصة هذا التطور الذي لا يستطيع أحد أن يعاكسه: انها قصة مرور الراوي من المراهقة الى سن الرشد. انه الانسلاخ عن صوته، عن عضلاته، عمّا تبقى من جسده لدرجة انه لم يعد يعرف نفسه. ولم يكتشف ذلك كله الا عبر شخصية ماريا الرائعة التي تشرح له ان هذه اللعبة ليست سوى امتداد ليده. من هنا حين تحل ليلة الطيران الموعودة يتحول الأمر الى أكثر من لعبة طيران خشبية يرميها الراوي في الهواء: لقد فاز لحظتها «بشيء حقيقي» وصار لديه القدرة الحقيقية على ان يسمع نفسه. من وجهة النظر هذه تأتي نهاية الرواية لتشكل بداية أكثر من كونها خاتمة؛ إذ نعرف ونفهم بأن البُكْمَ المزعوم للغة المكتوبة يلعب دورا مضادا ويعمل على تخطيها كي يسمع جيدا هذا الارتقاء المضاد: انبثاق عبارة حرة في صوت رجل… فالصمت يصبح هنا، ولكي نستعيد عبارة أساسية في الكتاب، «شد زنبرك الرامي الوحيد».
لا يبدو دو لوقا شخصاً «مغفلا»، فالبكم عنده لا يمتزج أبدا مع «عدم المعنى». من هنا تتأكد لدينا ما يسميه «فكرة الاحتياط الخصب»، أي المرور من البكم الى العمل على طريق الالتزام. ومن هنا يخرج الشاب من الكتابة بعد ان تمتلئ يومياته الحميمة ليغادر الأمكنة التي شكلت حياته الأولى، حياته كطفل صامت، ليتبع ذلك التغيير الجذري: الرحيل، العيش، التكلم بصوته الخاص، ليشكل ذلك كله أمراً واحداً، اذ بعد أن يرمي «المرتدة» تشكل حركته هذه استعارة لا يمكن التراجع عنها: لا تعود اللعبة اليه أبداً.
من الحسنات الجيدة في هذا النص هو إعطاء فكرة عن «الالتزام»، الذي هو بحاجة الى وقت طويل قبل ان يتأكد، أي انه بحاجة الى تلك الاندفاعة الداخلية، الى هذه النقمة التي تكبت اللحظة كي تحمل معها كل شيء. من هنا قد نستطيع ان نصف الرواية بأنها رواية تبحث عن مكان آخر، أي بمعنى آخر، إنها رواية ما قبل الحدث، انها الرواية التي تمهد لحكاية ستكتب في ما بعد، وإن كانت لا تحمل أي وعد كاذب أو أي «نور» يريد ان يقترحه على البشر ليأملوا به.
«جبل الرب»، رواية عن أفق ما لا يتراجع كلما اقتربنا منه، اي انها ترفض كل هذا العالم الساكن، الافتراضي، لتجعل من النص عتبة قد نتجاوزها: إنها بداية المشروع الكتابي الذي لا ينتهي.