التاريخ بطل رواية «ستيمر بوينت» اليمنية

الجسرة الثقافية الالكترونية

*مودي البيطار

المصدر: الحياة

 

يضع أحمد زين شخصياته تحت ضغط التاريخ، ويرافقهم في رحلة التأزّم، الخوف وتعثّر البحث عن الخيار والخلاص. يختار الكاتب اليمني خروج المحتلّ البريطاني من عدن زمناً لعمله الأخير «ستيمر بوينت» الصادر عن دار التنوير. يبرع زين في تمحيص الهيئة، الحال والمشهد، ويبدو أقرب الى كاتب القصة بنهايتها المفتوحة منه الى الروائي وفق المعايير الكلاسيكية. لكن ذلك لا يسيء إليه أو الى القارئ الذي يجد أمامه مناخاً بصرياً وداخلياً مرصوصاً ينتقل بسرعة من طمأنينة  الرفقة اللطيفة الى شمّ رائحة الدم  في كلمات الرفاق في جلسة واحدة (الصفحة 131).

التاريخ بطل أحمد زين مجدداً، وتحديداً  28 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 قبل يومين من انسحاب القوات البريطانية من عدن. يجمع الخوف التاجر الفرنسي العجوز ومستخدمه سمير من انتقام المقاومة اليمنية الجنوبية، ولئن أصرّ الأول على تجهيل هويّة الثاني وإنكار فرديّته ومناداته دائماً «الشاب»، تتحوّل المرآة هذه الليلة وسيلة تلصّص لكل منهما على الآخر، وطريقة متأخرة للاعتراف وإشباع الفضول والمعرفة. يصبح ابن البلد شخصاً ذا أبعاد تتعدّى الخدمية الى طلب الحماية والمشاركة في خانة واحدة هي المطالبون ببقاء الإنكليز، الخائفون من هجوم الوطنيين عليهم. يفصّل زين التاريخ الحافل لعدن الكوزموبوليتيّة، بجماعاتها وتجاراتها وأشخاصها، ويزيد معرفة القارئ بالبلاد التي يعيش بعيداً منها في الوقت الذي يؤكّد انتماءه وحنينه. تبهر المدينة بتنوّعها الحضاري الذي يجمع اليمنيين، الإيرانيين، الهنود، اليهود، الصوماليين، البريطانيين والأوروبيين، وتجد في الباحثة الإنكليزية آيريس معجبة رومنسية بـ «المتوحش النبيل».

ينتقل النص بين المونولوغ والسرد بصيغة الغائب، ويتابع أساساً قاسم وسمير الذي يبقى «الشاب» طوال ظهوره مع الفرنسي، الإمبراطور داخل الإمبراطورية، حتى بعد معرفتنا اسمه. نعلم، وسط تقطير المعلومات، أنه معلّم للتربية الفنية يكتب مسرحية مدرسية عن الاحتلال البريطاني لعدن في القرن الثامن عشر. يعمل أيضاً مشرفاً على المستخدمين في قصر الفرنسي الإنكليزي الطراز، وطاهياً بديلاً عند غياب طبّاخه. يصرّح عن هواه السياسي منذ الصفحة الأولى: «شخص آخر تتحوّل فور أن تكون داخل هذه الأبّهة الكولونيالية (…) تشعر بك تتخلّص تدريجاً من الشخص الذي تكونه في منزل جدّتك (…) كيانك كله يتحقّق ما إن تكون في منزله». يدمغه إعجابه العنيد بالمحتلّ ويجلب عليه الخطر والخسارة، ويطالَب بتحديد موقعه بين «معنا أو ضدّنا» حين ينتقد القتال بين فصائل الكفاح المسلّح. بدت له عدن قطعة من الجنّة، صَنَعَ الإنكليز «معجزةَ» نهضتِها حين قصدها من «الشمال المتخلّف» قبل أربعة أعوام إثر مقتل والده في ثورة 1962، وعرف أنه لا يريد الانتماء سوى إليها. رأى الإنكليز يرفسون ويضربون بالبنادق المطالبين بخروجهم، ورأى أيضاً «الإخوة يتحوّلون وحوشاً كاسرة، ذئاباً جائع بعضها للحم بعض» في الصفحة 50، «لم يستشرسوا في طرد البريطانيين قدر استشراس أحدهم في مواجهة الآخر» في الصفحة 111. يقول: «جرّبت أن أكرههم، لم أقدر. أحبّ طريقتهم في الحياة. وأعثر على نفسي في كلّ مرّة أكثر شغفاً بما صنعوه في هذه المدينة» (الصفحة 56)، فتردّ سعاد المعجبة بتقليد شاي الساعة الخامسة: «كأنما عيناك غير عيوننا. من أنت؟ بطل ترديد معجزات البريطانيين؟ في اللحظة المناسبة سنصنع نحن معجزاتنا».

يـــبـدو التقـاتــل الداخـلي والخوف من غياب الاستقرار مبرّراً لانحياز سمير الى الاحتلال البريطاني الذي لا يراه خيانة أو عمالة أو تواطؤاً (الصفحة 14) خلافاً لنجيب الشيوعي، الذي يريد الاستقلال مع معرفته أن أكثرية العدنيين عمّال أميّون لا تأثير لهم. يصرّ سمير على هويّة أخرى هي العدني الذي يريد أن يُرضي الإنكليز، وإلا ما الذي يأتي بالرفاق، شبّاناً وشابات، الى الأحياء الجديدة ومقاهيها الحديثة؟ لا يفهم سبب تحوّله مع حبيبته سعاد خصمين، وكانت هذه بسفورها وسروال الجينز وثيابها القصيرة وجلوسها في المقاهي والحانات مع الشبان وراحتها في الحديث مع الرجل، صورة لعدن الجديدة بفضل والدها أساساً. أبدى مرونة شديدة تجاه اندفاعها، خلافاً لوالدتها (الصفحة 68) وأعطاها الصحيفة يومياً لتقرأها بعده. رأت نفسها مختلفة، وسعت عن وعي إلى «التألّق الشخصي» وابتعدت من سمير حين بقي في حقبة رآها البريطانيون أنفسهم بائدة. تنحاز الى نجيب الذي كان يعمل في فندق أجبره على تنزيه كلاب النزلاء وتنظيفهم وتلبية رغبات الأجنبيّات فيه. ترك ماضيه وراءه وتاق الى اللحظة التي يعيد فيها صياغة نفسه: «لنكن حالمين، ولتكن أحلامنا كبيرة» (الصفحة 86).

قاسم ديناصور عاطفي مثلما سمير ديناصور سياسي، وهو يشكّل معه القصتين الطويلتين في «ستيمر بوينت» التي تعني ملتقى البواخر في منطقة التواهي. يطلّ في أول أربعينات القرن الماضي عند تزويده الضابط الإنكليزي الستّيني بامرأة جديدة يشعر بألم خفيف في معدته حين ينظر إليها. يتساءل هذه الليلة عما يفعله، ويشعر بالخزي والنجاسة، وإذ يلتصق الضابط بالفتاة وتبدو كأن لا قيمة لها، يكرهه ويتمنى أن يؤذيه. لكن الإنكليزي وفّر له الحماية، وتجنّب مواطناته كما لو كنّ مصابات بمرض معدٍ. تردّد أنه شاذ أو عاجز، وسأل قاسم الفتاة عما يفعلان حين التقاها لشراء حاجيات البيت. طلب منها ارتداء الملابس والقبعات ثم خَلْعَها وهو في كامل لباسه العسكري. غيّرها وأبقاها معه مدة فاقت الفترة التي قضتها الأخريات، وأراد تحويلها سيّدة بإدخالها الى نادي سيّدات عدن. كانت ظنّت أنه أرادها لنفسه حين قصد كوخها، ونبّهته الى رحيل الضابط إلى بلاده قبل يوم، لكن أصابعها التي مسّت ذراعه شلّت تفكيره.

تمعن آيريس، كارهة قومها، في تحدّيهم حين تتّخذ التاجر الفرنسي والقنصل الأميركي عشيقين في الفترة نفسها، وتلتقيهما معاً. يصدمها تعالي البـريـــطانيـــين على السكان المحليين، وتكتب عن حياتهم في محيط هم دخلاء عليه. تستنكر إعجاب سمير بهم في الوقت الذي يكره بعضهم ذاته لأنه محتلّ. على أنها تتعالى وتُخصي فردياً مقابل الاحتقار والإخصاء الجماعي للمجتمع المستعمَر، إذ يشكو خادمها العجوز تجوالها عارية أمامه كأنه ليس رجلاً قادراً على الرغبة والهجوم عليها.

يلتقط زين ببراعة اللحظات الحسّاسة، العابرة، اليومية والعواطف والحركات السريعة التي تخفي عمقاً يعود هاجساً وعذاباً. يرسم تاريخ شخصياته ومداهم النفسي بأناة وعمق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى