الترجمة: ابتسامة محببة في وجه الخيانة

الجسرة الثقافية الالكترونية
ترجمة النصِّ من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف، لا يعني انتقاله في اللغة وحسب، بل يعني انتقاله إلى ظروف فكرية وحضارية أخرى مختلفة عن الظروف في اللغة الأصل، ما يؤدي إلى ظهوره في شكل مختلف عن شكله الأصلي.
في عالم النقل من لغة إلى لغة توجد خيانة أطلق عليها المترجمون اسم”الخيانة الذهبية” أو”الخيانة المحببة” ولما كانت اللغة الطريق الحميم للتواصل مع الآخر فإن للترجمة قيمة كبرى في إنعاش الحضارة البشرية وإغناء المخيلة وتقديم تجارب أدبية وإنسانية مختلفة وجديدة عبر لغات مختلفة.
إنَّ النص يحتاج إلى تلقي المترجم قبل الشروع في ترجمته، ومن المؤكد أن عملية التلقي تختلف من شخص لآخر بحسب حيثيات كثيرة أهمها ثقافة المترجِم، ما يجعل الترجمة في النهاية تبدو وكأنها اجتهاد شخصي يختلف من مترجم لآخر بحسب ثقافته ووعيه للنصِّ الأصلي، بل إنها قد تختلف، أيضاً، فلو أعاد المترجم نفسه ترجمة النصِّ ذاته مرّة أخرى بعد فترة من الزمن لوجد أن ترجمته قد تغيرت بحكم تغير وعيه ونظرته للنص مرة أخرى.
ويتساءل الكثيرون: ماذا لو وجدنا أنفسنا أمام عمل جديد شكلته الترجمة باسم الإبداع؟ هنا تصبح الترجمة خيانة كاملة وليست خيانة جزئية فالمترجم هنا استلب النص الأصلي لرصيده الأدبي ولم يخدم النص بقدر ما استخدمه ومنحه لنفسه.
ولكن إلى أي مدى يحق للمترجم أن يضفي على النص المترجم من ذاته وفق فهمه الخاص للنص؟ ولعل هذا السؤال يضعنا وجهاً لوجه أمام تعريفين للترجمة مختلفين ويتضادان في المعنى وهما إحدى أهم إشكاليات فهم أساسيات الترجمة الأدبية في وقتنا الحاضر.
إذ يقول التعريف الأول “المترجم ملزم باحترام العناصر التي اختارها الكاتب الأصلي، كما أنه لا يسمح له أن يترك بصماته الذاتية على العمل الذي يقوم بترجمته”، ويأتي التعريف الثاني”يتسم موقف المترجم من النص بالذاتية، وينبغي عليه أن يترك بصماته الخاصة على النص، شأنه في ذلك شأن الفنان المبدع تماماً، وبالتالي لا بد أن يتمتع المترجم بقدر من الحرية أمام النص الذي يترجمه، فحتى إذا راعى الدقة، فباستطاعته التصرف في النص الأصلي بطريقة ما، حذف شيء هنا وإضافة شيء هناك، دون أن تترتب على ذلك آثار سلبية”.
ضمن هذا التعريف، لا يكون المترجِم مجرّد ناقل لنصّ، بل مبدعاً قادراً على ابتكار الاختلاف وليس التطابق لبلوغ جوهر النص الذي ينقله، وفي هذا السياق لا يسعى المترجم إلى اختيار الكلمة الصحيحة أو المرادفة لتثبيت معنى النص، بل إلى خلق تواصل بين النص الأصلي والترجمة، باستخدامه كلمات تقع بمحاذاة الكلمات الأصلية، ضمن معنى يقترب كثيرا منها.
وهذا لا يعني طبعاً أن الترجمة الإبداعية تتخلّى كلياً عن النص الأصلي، بل تمر بجانبه، وتلامسه، لكن بخفّة كبيرة، من دون أن تكون مطابقة له.
وهناك من يرى الترجمة بأنها عملية إعادة تأليف أو كتابة عن مخطوط موجود أصلاً، يحتاج فقط إعادة النظر فيه عند نقله من لغته الأم إلى لغة المترجم نفسه، أي السعي لكتابة المخطوط بلغة أخرى لكن بمعان مشابهة للنص الأصلي.
وإذا كانت الكتابة هي رغبة محببة وحاجة داخلية عند المبدعين والكتاب، فإن الترجمة أيضا ترويض لتلك الرغبة بلغة أخرى وإحساس جديد، لذلك يعتقد الكثيرون أن الترجمة كتابة ثانية تراوغ الكتابة الأصلية وتقترب منها كثيرا لتأخذ منها الكثير ثم تبتعد.
وعن الترجمة الرديئة فقد اعتبر بعض المهتمين أن كل ترجمة تستحقّ المديح، حتّى تلك الحرفية الجامدة التي لم تقدم النص الأصلي لا بحرفيته ولا برؤية جديدة، فهي إن لم تكن أمينة في النقل فهي على الأقلّ تجعلك تعود إلى النص الأصلي لتقرأه.
ميدل ايست أونلاين