التشكيلي ستار نعمة في مواجهة مع تراجيديّا العنف

الجسرة الثقافية الالكترونية

*علي السراي

المصدر: الحياة

 

قد يكون مشهد تحطيم الآثار القديمة في متحف الموصل، من أخطر الأحداث التي شهدها -ويشهدها – العراق خلال الفترة الأخيرة. ويأتي هول المشهد ليتقاطع مع ما يقوله الفنان التشيكلي ستار نعمة (30 عاماً) وهو يعاين وطنه المتمزّق العراق: «إنها عقود من الحروب والديكتاتورية والعنف، حولت الفن من مصدر لإشاعة الجمال إلى مادة للتعبئة الحربية والترويج للمنتصر».

لكنّ هذا الواقع الأليم لا يفرض عدمية ثابتة، لأنّ الفنان الحائز جائزة أكاديمية «سانت جوس» للفنون الجميلة في بروكسل، يعتقد «أنّ ثمة وميضاً لجمرات الاستمرار تلمح دوماً تحت رماد الحروب». وهو يستند في ذلك الى ما يصفه بـ «خصوصية الفن في نسخته العراقية، وهي الطاقة القديمة للامتداد التاريخي التي تدفع العجلة إلى الأمام على رغم بعض العثرات الطارئة». وفي هذا السياق يقول: «غالباً ما يجد الفن الحجة ليتشكّل ويزدهر في أي ظرف».

لكنّ الحديث عن «الامتداد التاريخي» للفن، تعرّض في العراق لقطيعة خلّفها الخراب والعنف. فإنّ ستّار نعمة الذي ترك العراق قبل نحو عشرين عاماً، لا يزال يحتفظ بتلك «اللوحة الأولى» عن البيئة العراقية: «لا مفر من صورة أمي وعائلتي الكبيرة، جارتي التي كنت أغازل وتسكّعي مع الأصدقاء في شوارع بغداد… نتنقّل بين عرض مسرحي وصالة عرض للرسم».

ولكن في نهاية المطاف، حدثت قطيعة يصفها نعمة بالقول: «كنت أتمنى لو احتفظت بتلك الصورة الرومنطيقية، لولا زيارتي الأخيرة للعراق. الصورة تصدّعت. وصل العنف اليوم حداً مقززاً ومثيراً للاشمئزاز. إنها تراجيديا أبدية لا يمكن للفن أن يستوعبها أو أن يتعامل معها من دون شكوك وريبة، بل ورعب».

يحتاج الفنان ستار نعمة اليوم، كأي تشكيلي في العراق، إلى «بيئة متوازنة حرة»، بينما عليه أن ينتظر طويلاً ليتعافي من الصدمة، وحينها سيكتب «رسائل مراجعة واستيعاب».

لهذا يعتقد نعمة بأن الفنان العراقي «لم يجد فرصة لالتقاط الأنفاس، فسرعان ما قرعت أجراس العنف مجدداً، عنف بشكل آخر تحرّكه نزعات راديكالية لمجتمع يلهث أصلاً من كثرة الحروب والجوع، مهد له ديكتاتور أحمق». ويُضيف قائلاً: «حينها دخلنا دوامة جديدة، فجاء نكوص الفن كنتيجة لها، ولو كانت هنالك إرادة حقيقية لبناء المجتمع وترميم تصدّعاته، لكان الاهتمام وتشجيع الثقافة والفن حلاً، قد لا يكون سحرياً، ولكن سيكون دوره حتماً مؤثراً وكبيراً، وفي ما يبدو فإن الخيار الآن هو الإيغال بالتصدّع والدمار».

وعلى رغم صعوبة إيجاد عبارات مناسبة تصوِّر الواقع العجائبي الذي يعيشه العراق بأهله وفنّه وثقافته، فإنّ الفنان الشاب يصف الصورة العراقية الحالية بـ «المفزعة تماماً». أمّا هذه الحالة العامة، فجعلته كفنان تشكيلي بعيداً من أي حراك ثقافي وسياسي حقيقي. وهو يوغل كثيراً في الاغتراب عن واقعه إلى حدّ أنه يقول في ما يشبه الاعتراف: «كنت أتمنى لو أنني وُلدت في زمن آخر أو أن يتسارع الزمن بسرعة الضوء لكي أرى العراق كأي مكان هادئ في العالم».

والمفارقة، أننا في تلك الأمكنة الأخرى «الهادئة» من العالم، نجد عشرات من الفنانين العراقيين الذين وجدوا غايتهم في بيئة مسالمة إلى حدّ ما. ومن بينهم ستّار نعمة الذي يرى أنّ تراكم التأثير العراقي جعله رساماً يهتدي إلى اللون بالتاريخ. وفي هذا الإطار، يقول: «يسألني الفنانون الأوربيون كيف لك أن تفعل ذلك؟ أن ترسم وكأنك في حلقة صوفية من دون تحضير أو قصدية واضحة (…). وكنت أجيب دائما بأنها جينات أجدادي المكتنزة بالخبرة والتقنية والحلم. أنا لا أفعل شيئاً غير استحضار أرواحهم، يبتسمون وأبتسم. قد يكون هذا حديثاً شاعرياً ورومنطيقياً، لكنّ الحقيقة الأوضح أننا نتأثر ونؤثر».

ولكن، هل بقيت خصوصية للمدرسة العراقية كتعريف «جهوي» بعد كل هذا الجنوح إلى العالمية؟ ففي فترات طويلة من مسار الفن العراقي كانت هناك ملامح للانصهار في الكونية، بيد أن ستار نعمة لا يوافق على جرّ الفن إلى التصنيف المحلي بدواع تغرق في التركيز على الخصوصية الجغرافية. وهو يؤكّد ذلك قائلاً: «قد يدعو هذا التصنيف الفنان إلى عدم الانخراط والذوبان في الثقافة الكونية التي أسس لها عصر التواصل والتقارب التكنولوجي». ومن ثمّ يتساءل، «لماذا الخوف من الحداثة إذا كانت حتمية وتغني التجارب المحلية، كلنا ساهمنا بشكل أو بآخر في إضافة ما على مسيرة الفن التاريخية.. إننا عالميون بالنتيجة».

وحين يجيب نعمة عن سؤال اللون، يبدو أنه يتحدث فنياً باللغة العالمية ذاتها. إنه «يرسم لكي يرسم فقط».

يقول، «الألوان تلك الإشارات الأزلية التي تطبع الكون بسحرها وتعطي للأشياء معاني افتراضية كما تفعل الفلسفة، منحتني مفاتيحها وساعدتني على تفكيك فكرة الشر لتكون إشارة معرفية ضرورية للوصول الى فكرة الخير». وعن الحركة الفنية الحديثة في العراق، يقول «إنّ الحركة التشكيليّة العراقيّة كانت غنية وسبّاقة على المستوى العربي، لكنه لا يسمي ما حدث للفن في بلاده تجديداً، بل تراجعاً».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى