التشكيل السعودي: حضور خجول محليا ولافت عربيا

زكي الصدير
توقفت صحيفة “العرب” مع بعض الفنانين التشكيليين السعوديين في استطلاع خاص بعام 2016، وتحاورت معهم حول بعض المحاور الكاشفة عن تقييمهم للحركة الفنية التشكيلية ومدارسها الأكثر حضورا، وإلى أي مدى كان النقد مواكبا أو غائبا عن المشهد، وهل استطاع الفنانون خلال العام التعبير عن مشكلاتهم التي تشغلهم محليا، أو تشغل المجتمعات العربية.
ويرى الكاتب والفنان التشكيلي السعودي، عبدالعظيم آل شلي، أن مواكبة النقد للحركة التشكيلية السعودية لم تكن أكثر من آراء انطباعية جائرة لا تستطيع أن تعبّر عن رأيها بشكل ثقافي مدروس، وأنها مجرد نفث كلام على عواهنه لمجرد الانتقاد، وعلى الفنانين ألاّ يديروا لها أدنى التفاتة، ويشير إلى ذلك من خلال عدة مشاهد استطاعت أن تكشف هذه الحقيقة.
ذائقة متباينة
يقول عبدالعظيم آل شلي لـ”العرب”، “انقضى عام ولم تنقض إشكالاته على الساحة التشكيلية السعودية، فقد وصف أحدهم ممن خبر مراحل تطور الفن والفنانين بأجيالهم المختلفة، وهو فنان وناقد يحرر صفحتين فنيتين في إحدى الصحف اليومية المشهورة، قال قبل ستة أشهر في إحدى مقالته الأسبوعية ‘لقد امتلأت الساحة بصغار الفنانين عمرا وقدرات وأصبحت كحاوية ‘الزبالة’ مع تقديري لهذا الفن وما آلت إليه أحواله’، وعلى إثر هذا التشبيه اشتعلت الساحة بين مؤيد ومعارض، وبرر الكاتب جملته الإشكالية، في ما بعد، بأنه يقصد ‘المتطفلون على الفن’، ولا غيرهم، لكن توضيحاته لم ترق للكثيرين، رغم اعتذاره، مؤكدا أن التعبير قد خانه، شجاعة لم تسعف صاحبها، خصوصا عند المتربصين به، انتهزوها فرصة للتحريض ضده، ليس فقط على شبكة التواصل الاجتماعي، بل راحوا يشنون حملة تشهيرية جماعية في الصحافة المكتوبة، متسائلين هل يعقل أن يصدر مثل هذا الكلام من رئيس جمعية جسفت؟”.
ويضيف آل شلي في ذات الشأن “ناقد آخر ممن له وزنه الفني والنقدي، شن هجوما لاذعا قائلا ‘معارضنا لا ترقى إلى الفن، مجرد معارض مدرسية لا أقل ولا أكثر’، وأردف في مقال آخر ‘جميع المعارض التي تقام هنا وهناك، الفردية والجماعية ساذجة نمطية، لا تضيف إلى الفن جديدا، تنتهي بنهاية الحدث، مجرد فقاعات وتهويمات بارعة’، وكرر جملة في أكثر من مقالة ‘الفن التشكيلي السعودي حائر مرتبك، ومكانك سر’، هذا المنطق قوبل أيضا بالاستهجان عند البعض، وفسر بأنه تحامل على الفن والفنانين ومجهودات القائمين على المعارض وضد توجه النشء الجديد، والحراك الفني برمته”.
ويتابع “صحيح أن ذائقة البشر متباينة ومتفاوتة، لكن هناك حدودا موضوعية للنقد، وله موازين تشريحية، ولا يحسب النقد نقدا، إلاّ عن فهم ودراية وعلم ومعرفة بكل ما هو مطروح بقديم الفن وحديثه وتاريخه، بعين ناقدة فاحصة تتقاطع وتتقارب رؤيتها الجمالية والفلسفية عند ذوي الخبرة في عالم الفنون”.
قد يرى من يقرأ تلك الآراء المتقاطعة نقدا جارحا للمتعاملين في الحقل الفني، لا مبرر له وبأنها مجرد تشنجات متطرفة لها ما يوازيها في مجالات عدة، وربما يعقب آخر بأننا سمعنا أعظم من ذلك.
ويضيف آل شلي “ما قصدته ليس أن أشير إلى هكذا انتقادات ربما حادة وعنيفة وفي نفس الوقت قد تحمل الصواب والخطأ في آن، وإن كانت قاسية في حد ذاتها على معشر أهل الفن الذين يتفانون بكل ما أوتوا من قوة وبأس للسير بحركتنا التشكيلية قدما إلى الأمام، إنما الذي أعنيه، ليس مهما أن يقتنع القاصي أو الداني بما أنجز، أو لزاما علينا أن نحوز الرضا في عين الكل في الداخل والخارج، المهم أن ننتج بوعي، أن نعمل بجد وإخلاص، أن نتريث بقيمة ما نطرح على جميع الأصعدة، ولكل منا حسب اجتهاده، بغض النظر عن وجهات النظر المتباينة أو المتسرعة هنا وهناك”.
ويختتم آل شلي حديثه لـ”العرب” بالتأكيد على أن “المنجز التشكيلي خلال 2016، بفضاءاته المتعددة، هو ميكانزيم معقد وجدانيا ونفسيا ومتواشج مع الفرد والجماعة من التأثير والتأثر، من الاستنباط والاستقراء والمحاولة والخطأ والبحث والمكابدة والمشاهدة المفتوحة لكل المنجز العالمي، والتضحية بصرف الوقت والمال والسهر والسفر، وتحدي النفس والظرف، للوصول إلى النتائج المرجوة والمبتغاة، إن كنا صادقين مع ذواتنا ومجتمعنا بعمومه، وشرائحه المتعددة، حتما سوف نصل إلى ما نصبو إليه، سنصل ليس بين يوم وليلة، سنصل بخطواتنا المدروسة الواثقة بمنهجية واعية، آمل أن يكون العام الجديد يحمل في طياته متغيرات مختلفة نوعا وكيفا، ترقى إلى مكانة المنجز السعودي الممتد قرابة خمسين عاما”.
وبدورها تقول الفنانة التشكيلية السعودية فاطمة النمر إن النقد التشكيلي هذا العام ليس غائبا، وإنما مغيب لصالح فنون حديثة استطاعت أن تختطفه لجهتها، الأمر الذي جعله في منصة بعيدة عن الفن بمعناه الكلاسيكي، وترى النمر أن هنالك توجها من حركة الفنون العالمية إلى “الفلسفة”، وذلك من خلال موجة الفن المفاهيمي والتركيبي وفنون الأداء المسرحي مبتعدين كل البعد عن فكرة اللوحة التشكيلية الكلاسيكية.
وتقول فاطمة لـ”العرب”، “أصبح اهتمام الفنون العالمية على صناعة الفنان فقط وإعطائه فكرة العمل والبعد عن جمالية إخراجه كإعادة تدوير أو تجميع وإضافة بعض الكلمات، وبنظري إن الفن ليس مجرد فكرة، ولكنه حس وبقاء، وبعيدا عن الأكاذيب الفلسفية، والفنون التجميعية المستهلكة، فالعمل الفني هو من يفرض نفسه بنفسه، وهو الوحيد الذي سوف يبقى ويعبر عن قضيتنا كفنانين على مدى القرون والأجيال المتصاعدة”.
وتتابع النمر “للأسف، لقد أصبح بعض الفنانين يواكبون هذه الموجة ويربون أجيالا على هذا المنوال، وأنا لا أنكر أن الفن يحتاج إلى مواكبة حداثة وتكنولوجية العصر، ولكن ليس بالاستخفاف بالعقل البشري إلى هذا الحد، فقيمة الشيء ترى من جماله وبقائه، والقيمة الفكرية ومدى تأثيرها على حس المتلقي، فالفن قضية وفكر، وهذا ما قد اتضح لنا خلال قرون وأجيال تربينا عليها مع العمل الفني، وقد غابت وتلاشت في أهم دور العرض المهمة وغيرها وسببت ما نراه الآن”.
وفي سؤال لفاطمة النمر عن مدى استطاعة الفن التشكيلي السعودي خلال عام 2016 أن يعبّر عن مشكلات المجتمعات العربية والمحلية؟ وهل كان هناك سعي نحو ذلك؟ تقول النمر عن حصاد الفن السعودي خلال 2016 “عندما نتحدث عن الفن السعودي المعاصر سنلاحظ نشاطا خجولا خلال عام 2016، وفي المقابل سنجده بحضور لافت في مناسبات عالمية وعربية خارجية، ولكن بجهود خاصة من شخوص معينة، حيث نلاحظ غيابا تاما للمؤسسات الحكومية الداعمة للفنون، وكذلك ركودا لدور وزارة الثقافة والإعلام، أو بالأخص الرعاية التي يفترض أن تقدمها الوزارة خدمة للجيل الجديد من الفنانين الشباب وتوجههم.
وتلاشت جميع النشاطات الخاصة بوزارتي الثقافة والإعلام السعوديتين خلال السنوات الثلاث الماضية، مما أدى إلى توجه معظم الشباب إلى اللجوء إلى المناسبات الخارجية التي لا تمت للفن بصلة، والهدف منها استغلال نقود الشباب في سبيل الفن”.
وتضيف النمر “هنا دورنا كفنانين أن نطالب وزارة الثقافة، وكذلك جمعيات الثقافة والفنون بالحراك وإقامة نشاطات فنية تساعد هذا الجيل القادم على الانتماء إلى هذا الوطن”.
تتحفظ الفنانة السعودية، نور السيف، على عبارة “الفن السعودي”، وتفضل بدلا منها عبارة “الفن في السعودية” ليشمل ذلك الفنانين المقيمين فيها أيضا، وتؤكد لـ”العرب” أن هنالك سيلا من محاولات التجديد في الأساليب الفنية لدى الشباب تجاوزت مفهوم التصنيف، فالمدارس الفنية التقليدية، حسب رأيها، لم تعد موجودة أمام الاتجاه نحو الفن الحديث.
وتقول السيف “لا شك أن الفن المفاهيمي ببساطته المعقدة هو أبرز ما طرح على الساحة المحلية خلال هذا العام، وانطلق منها إلى مشاركات خارجية، ومن خلاله استطاع الفنانون تجاوز مقص الرقيب، وطرح قضايا اجتماعية حساسة، ويبدو جليا السعي نحو ‘قيادة الذوق العام’ من خلال هذه المنجزات”.
وكمثال على ذلك ذكرت السيف معرض “التكيف” للفنان محمد حيدر والعمل المتنقل للفنان مشعل العبيدالله، وأعمال الفنانة سارة عبدو وخطها الفريد في الرسم، والأعمال المفاهيمية المتنقلة للفنان أيمن ديدبان وأطروحات الفنانة زهرة الغامدي، والكثير ممّن شارك بمعارض في الخارج.
وتضيف نور “رغم تفاوت زخم الحركة الفنية مناطقيا (الرياض، جدة، الشرقية) لكني أرى أن أجمل ما في تجارب عام 2016 كصورة إجمالية هو رغبة الشباب الجادة في الحفاظ على الريادة النفسية والذهنية، وحرصهم على تجديد الرؤيا، في الوقت الذي يغيب فيه النقد المحلي عنهم ويبرز التحقيق الصحافي لمواكبة الحدث التشكيلي بصيغة مبسطة استنساخية في الغالب، باستثناء أقلام مهنية محدودة، فجميعنا يعي أن مساحة النقد في العالم العربي أقل من كثافة الإنتاج الفني”.
معارض هامة
قبل نهاية سنة 2016 شهدت السعودية معرضين هامين؛ أولهما معرض “لمسات الملتقى 2”، وثانيهما معرض “شكل 2” بالدمام، وشارك في المعرض الأول أربعة وأربعون فنانا بأربعة وأربعين عملا تفاوتت تجاربهم بين العادية والعميقة، حيث قدّم بعض الفنانين تجارب ذات مضمون فني عميق بألوان وكتل بصرية مدروسة، بينما جاءت تجارب أخرى بإيقاع انطباعي مباشر يتحدث عن الوطن أو التراث أو الطبيعة.
وأكّد الناقد مالك القلاف لـ”العرب” أن بعض التجارب المشاركة ذات أبعاد فلسفية عميقة وتمتلك مفاتيحها الخاصة للدخول بحرفية عالية للمتلقي، إذ يقول “نلاحظ أن اشتغالات الفنانين على الثيمات الجريئة بدأت تصبح ملمحا في الفن
التشكيلي السعودي، لكنهم في هذه التجربة بالإضافة إلى الجرأة كانوا متنوعين، حيث تطرقوا إلى مناطق مبتكرة بشكل تجريدي واضح”.
وشارك في “شكل 2” واحد وعشرون تشكيليا ومصورا سعوديا من نخبة الأسماء الفنية السعودية الشبابية تحت إشراف الفنانين زمان جاسم وفاطمة النمر ويثرب الصدير.
(العرب)