التشكيل اللبناني الآن.. انقلاب التقنيات

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أحمد بزون
المصدر: السفير
ماذا حملت لنا السنة المنصرمة من جديد على مستوى الفن التشكيلي؟
الإجابة ليست سهلة بالطبع، ذلك أن الجديد لا يكمن خلف حدود سنة من العمر، والتغيير على مستوى الفنون، عبر التاريخ، احتاج إلى سنين طويلة بالطبع. صحيح أن مراحل التغيير بدأ طولها يتناقص مرحلة بعد أخرى، بسبب سرعة العصر الجديد، غير أن الفنون لا تشبه أجيال الهواتف المحمولة أو الأدوات الالكترونية الأخرى. وحتى لا أدّعي رصد كل ما يجري في العالم على مستوى التشكيل أحصر الكلام هنا بجديد التشكيل اللبناني… وحتى هذه المهمة ملتبسة، لأننا نكاد نجزم أن ليس عندنا مواضيع مستجدة في الفن، ثم لم تولد خلال السنة التي نوشك على إسدال ستارها تيارات فنية جديدة، وعليه فالجديد حدثي وحسب، أو شكلي على الأرجح. وحتى لا نظلم أحداً، يمكن أن نعترف بأن عدداً من الفنانين يجددون في أساليبهم، لكن أكثر ما يلفت في التغييرات التي تحصل اليوم هو الابتعاد عن الشكل التقليدي للعمل الفني، أعني طلاق اللوحة أو المنحوتة. وهذا فاصل يراه الجميع، وربما هذا هو الانقلاب المهم الذي يعيشه الفن التشكيلي في العالم. وهو بالطبع ليس ابن سنة أو سنتين، إنما بدأ منذ منتصف القرن الماضي، مع تطور التكنولوجيا في العالم، وعنوان هذا الانقلاب هو التقنيات الجديدة.
منذ بداية تاريخ الفنون التشكيلية وهاجس تغيير التقنيات مستمر، من استخدام التلوين الطبيعي في اللوحة والأدوات الطبيعية في المنحوتة إلى استخدام المواد اللونية الصناعية في التصوير اللوني واستخدام المحركات الكهربائية والأدوات الشديدة الدقة في تشكيل المجسمات. لكن رغم كل التغيرات التي حصلت في مراحل سابقة على الانقلاب الذي نتحدث عنه، بقيت اللوحة لوحة والمنحوتة منحوتة.
حدث اجتماعي
أما ما يحدث منذ أكثر من نصف قرن أن التقنيات الجديدة تخطت الشكل التقليدي للعمل الفني، وكسرت المقاييس العادية والأعراف الفنية، وتحدت الذوق العام. في وقت لم يعد العمل الفني مجرد حدث فردي تنحصر علاقته بالفنان والمقتني، إنما تحوّل إلى حدث اجتماعي مع عصر الانفتاح على الصورة التي تدخل كل بيت، ليس عبر الشاشة الفضية، بل الملونة، إنما عبر شاشات الكومبيوترات والهواتف المحمولة، وشبكات التواصل الاجتماعي.
لا يعني الحديث عن هذا الانقلاب موقفاً رافضاً لجماليات اللوحة والمنحوتة، ولا تأييده وشجب ما عداه، بل إننا ونحن نرصد هذا الركض إلى الأمام نلاحظ الكثير من الاستعجال بهدف لحاق الغرب، والفوضى، والتفلت من القيم الفنية، وحتى نحر الفن أحياناً، والإفساح في المجال لدخول هذا العالم من ليس له أي علاقة بالإبداع. هذا الارتباك يحدث مع أي تحول دراماتيكي في أي نوع من أنواع الإبداع، فيتسابق إليه الفاشلون قبل المبدعين. مع ذلك فحرية المبدع مقدسة والسعي الدائم للتغيير سنّة المبدعين والناجحين في الحياة، والتطلع إلى المستقبل أفضل بأي حال من الاستنقاع في التاريخ مهما كان مجيداً.
في لبنان شكّل «المعرض التجريبي الثالث» الذي أقامته جمعية الفنانين اللبنانيين ظاهرة لافتة، كونه تضمن أعمال ما يقارب 70 فناناً لبنانياً قدموا كل التقنيات التي تبتعد عن مركزية التصوير والنحت، بل هو المعرض اللبناني المشترك الوحيد الذي أتاح مساحة للشباب وبعض الأساتذة ليستخدموا فيها تقنيات جديدة. بعض هؤلاء قدموا أسلوبهم التجريبي الدائم والبعض الآخر خرج على سيرته وساير طبيعة المعرض… ولماذا لا يقدم التشكيليون اللبنانيون، خصوصاً الشباب منهم، تجاريبهم بكل تلك الأريحية. فالتجريب في أساسه مفتاح المعارف في الفلسفة ونظرياتها التي اعتمدت المنهج الأرسطي، والفنون تجريبية بنشأتها، كما أسلفنا، قبل أن تستقر في كل مرحلة من تاريخها في مذهب أو تيار أو مدرسة.
معرض الجمعية إذاً، فتح آفاق الفن التشكيلي بعيداً عن أكاديميته وتقليديته، وسمح للشباب بأن يعبروا عن هواجسهم وتمردهم وحريتهم ورؤاهم، وقد رأينا أعمالاً لفنانين لبنانيين، تبين حجم الاتجاهات الجديدة في الفن. رأينا أعمال تجهيز وتجميع و»دجيتال» وفن أداء و»فـيديو آرت» وأعمالاً تفاعلية. وهو معرض كثرت فيه الأفكار، بل كانت الأفكار هي التي تزينه، وتبرز جمالياته.
تظاهرات
قبل هذا المعرض شارك الفنانون اللبنانيون بأعمال مماثلة لاقت اهتماماً خاصاً في بينالي الشارقة ومعرض «آرت دبي»، وهما من المهرجانات التشكيلية الدولية المهمة في المنطقة، والتي باتت «عدواها» تنتقل إلى المنطقة تحت مسمى الفن التشكيلي المعاصر. ويقدمان تنويعاً لانهائياً من التقنيات، ولو استخدم الفنانون فيهما مواد لونية يقدمونها بمسطحات مغايرة للعادي، إلى جانب مواد صناعية وأدوات مختلفة، وربما رمم، وسوى ذلك من المواد التي يمكن أن تدخل إلى العمل الفني لتكسر آلية اللوحة ومسطحها، كما تبتعد عن المنحوتة التقليدية نحو مزيد من التجميع والتركيب والتجهيز في الفراغ والصياغات المتداخلة، إلى استخدام التكنولوجيا والالكترونيات وألعاب الضوء والصوت والفيديو آرت والتصوير السينمائي والتجهيزات المختلفة. حتى أن تلك الأعمال تبدو ميالة إلى فلسفة العمل الفني أو تضمينه أفكاراً لا يطمح إليها العمل التقليدي. حتى أن بعضها يبحث عن تحقيق المفاجأة والإدهاش البصريين.
وإذا كانت هاتان التظاهرتان بارزتين على مستوى المنطقة، فإن بعض التظاهرات عندنا لها حضورها على مستوى المنطقة، مثل المعارض التي تقيمها «أشغال داخلية» في جمعية «أشكال ألوان» التي تستمر في البحث عن الفن الجديد لتقيم له تظاهرة في بيروت، كذلك فإن غاليري «زملر – صفير» تركز هي الأخرى على ذلك، وقد رأينا معرضاً للفنانة اللبنانية منيرة الصلح التي علقت على أحد أعمال معرضها: «يحق لنا بقوة أن نكون طائشين»، لتضع هذه العبارة علامة استفهام حول هذا النوع من الفنون التي تصل الحرية به إلى الطيش، بينما نجد فنان الديجيتال المعروف، ريكاردو مبارخو، يقول «الفن القديم يمكن التعامل معه لصوغ معان فنية جديدة. مارسيل دو شامب وضع شاربين للموناليزا. تلك لعبة، والفن لعبة عبر الأجيال كما يقول دي شامب. بهذا المعنى لا يبطل الفن. وأنا في عملي أجسد هذا المزج». وغير ريكاردو كثر يعملون على الجمع بين القديم والحديث، كأن نرى مشهداً طبيعياً عادياً في لوحة، وقد أدخل إليها عرض فيديو لأرنب يركض بين أعشاب المشهد. ثم إن استخدام التكنولوجيا، مثلاً، لا يوجب الفنان المبدع أن يذوب في الآلة لمصلحة ما هو غير فني، بل العكس هو الصحيح. هذا التزويج رأيناه مؤخراً في معرض ندين أبو زكي مثلاً، بالإضافة إلى ذلك يهتم «مركز بيروت للفن» بهذا النوع من المعارض التجريبية. مثلما نرى جزءاً من تظاهرة «بيروت آرت فير» التي تقيمها الفرنسية لور دوتفيل سنوياً يصب في تشجيع الشباب على الفنون الجديدة.
وفي تجربة لافتة شاهدنا منذ شهور تقنيات جديدة في عند مازن كرباج، في مشاركته عرضاً مسرحياً راقصاً بعنوان «وتدور» لعمر راجح، وقد قدم كرباج رسماً مباشراً وحياً ومرتجلاً أثناء العرض، إلى جانب ارتجال شريف صحناوي في عزفه الموسيقي، يستخدم فيه أحباراً تسبح في سوائل يحركها الفنان في تقنية بث ضوئي مفتوح لتظهر الرسوم مباشرة على رقعة الرقص. ولا ننسى أن بعض التجارب تخطت الصورة المتحركة على شاشة الكومبيوتر أو التلفزيون، في ما عرف بالفيديو آرت، واستفادت من فكرة تقنية «أونلاين» أو «شاتينغ» فقدمت عملاً حوارياً تفاعلياً مباشراً على الشاشة، طرفاه في دولتين متباعدتين. وهذا ما فعلته ناديا أوفريد في معرض «الفائزون»، الذي أقامته جمعية الفنانين منذ أسبوعين، مثلما نفذه آخرون في سنين سابقة.
كلها تجارب تتفلّت من ثبات العمل الفني وجموده، وتحرر الحس الفني في سبيل خلق ما يناسب العصر. لكن ما هو واضح أن اللجوء إلى تلك التقنيات الجديدة في معظمه يأتي نتيجة جهد فردي من الفنان، ذلك أنه لم يتكرس بعد في برامج معاهد الفنون عندنا، وإن وجدنا بعض الأساتذة الذين يدفعون الطلاب نحو تحقيق أفق مختلف لهم، والبحث عن أفكار جديدة، واعتبار كل المواد متاحة في الفن.
هل التقنيات الجديدة ضرورة للفن كي يتخلص من مشاهد التكرار الممل؟ نعم!
هل الحذر واجب حيال أي تغيير كون الجسم الصحيح يغري الطفيليات؟ نعم!
هل التقنيات الجديدة تلغي القديمة وتمحو تاريخ إبداع المبدعين وحاضره؟ لا بالطبع! فالجمال يفرض نفسه حتى بعد عصور!