التشكيل في الإمارات يفتقد النقد

الجسرة الالكترونية الثقافية-الخليح-
الحركة التشكيلية في الإمارات حركة لاحقة على نشوء الدولة، وقيام الاتحاد، بل تعد مساهمة الدولة في نشأة هذه الحركة مساهمة فعالة، لأن مؤسسيها هم في أغلبيتهم من أبناء المدارس التي أنشأتها الدولة، فبدأ هؤلاء عن طريق برنامج التربية الفنية، وبرامج الرسم بشكل خاص، مبكراً بممارسة التشكيل بمختلف أنواعه، وذهب بعضهم في بعثات تخصصية في مجال الفنون الجميلة إلى سوريا والعراق ومصر وبريطانيا، وحصلوا على شهادات عليا، وشيئاً فشيئاً، أصبح هناك هواة ومحترفون للتشكيل، وأصبحت ممارسة الفن ظاهرة استدعت إنشاء إطار لها، فلم يكتمل العقد الأول من عمر الدولة حتى ظهرت جمعية الإمارات للفنون التشكيلية التي انطلقت في عام 1980 لتكون الحضن الجامع لممارسي هذا الفن، ولتوفر الظروف الملائمة لهذه الممارسة، ولتروج لأعمالهم وتنسق بينهم وبين المؤسسات الحكومية المعنية في هذا المجال .
كانت العقود الثلاثة اللاحقة على نشأة الجمعية عقود ازدهار وتطور كبير لهذا الفن الذي حرق المراحل وانخرط سريعاً في معمعة الحركة الفنية العالمية، مستلهماً آخر ما تشهده أروقة وصالات الفن العالمي من ممارسات فنية ورؤى تطويرية، وبرزت أسماء كان لها دور كبير في التأسيس والتطوير المستمر لهذه الحركة، مثل حسن شريف وعبدالقادر الريس ومحمد كاظم ومحمد القصاب والدكتور محمد يوسف وعبدالرحيم سالم والدكتورة نجاة مكي وعبيد سرور وحسين شريف، ثم تلاحقت الأسماء واتسع نطاق الممارسة وتنوعت مشاربها واتجاهاتها، بما لا يخفى على المتتبع للساحة الراهنة، إلا أن هذه الحركة الإبداعية لم تساندها حركة نقدية قوية قادرة على توجيه مساراتها، والدفع بها إلى الأمام، وترشيد بعض ممارساتها التي قد تبدو بحاجة إلى ترشيد، وما ظهر من الممارسات النقدية، لم يتعد في معظمه المقالات الصحفية والتعليقات الخاطفة التي تظهر بمناسبة معرض فني يقام هنا أو هناك، أما الممارسة الأكاديمية المدعومة بأسس بحثية عميقة، ودراسة تحليلية مستفيضة للأعمال والظواهر التي تطرأ، ومتابعة مستمرة للساحة، أي الممارسة النقدية الاحترافية فقد ظلت غائبة، ولا ينفي هذا وجود بعض المحاولات النقدية، والأعمال الجادة التي اتجهت إلى كشف مكونات الظاهرة التشكيلية في الإمارات، ووضع تصور عن الحركة بشكل عام .
من المحاولات النقدية التي أرادت الإحاطة بالظاهرة وتتبع مساراتها تلك التي قام بها الفنان علي العبدان في كتابه “القرن الجديد: اتجاهات الفن التشكيلي ما بعد عام 2000” الصادر في عام ،2009 الذي يتناول بالتحليل والنقد تجربة 13 فناناً تشكيلياً إماراتياً، ويقدم حولها تقييما نقدياً، وهم: عبدالقادر الريس، وعبدالرحيم سالم، ومحمد يوسف، ونجاة مكي، ومحمد القصاب، وعبيد سرور، وحسن شريف، وحسين شريف، ومحمد كاظم، ومحمد أحمد إبراهيم، وخليل عبدالواحد، وعلي العبدان، وفتح الكتاب باب النقاش وردود الفعل التي شهدتها الساحة عند صدوره، لكن الكاتب لم يقدم حتى الآن أي دراسة أخرى تشي بمواصلته البحث النقدي .
يمكن أن نحدد ثلاثة عوامل رئيسية لهذا الغياب المستمر للنقد التشكيلي، أولها اتجاه دارسي الفنون الجميلة في الجامعات في الأغلب الأعم إلى التخصصات المرتبطة بالتصميم والتي تلبي حاجة السوق، والنقد لا يلبي أية حاجة تجارية يتطلبها السوق، فلذلك لا تسعف الأكاديميات النقدية الساحة بالدارسين المتخصصين في هذا المجال، وثانيها أن انخراط التشكيل الإماراتي في معظم توجهاته في سياقات ما بعد الحداثة، خاصة الاتجاه المفاهيمي، جعل الرؤية النقدية تتراجع لأن المفاهيمية وكل اتجاهات ما بعد الحداثة تعود في جذورها إلى رؤى انطباعية تتولد في ذات الفنان، ويعبر عنها كيفما اتفق له، وبالطريقة التي تناسبه، من دون الاحتكام إلى معيار مدرسي فني، فليست لهذه الاتجاهات مقاييس عامة يمكن الاتفاق عليه، ولذلك فمنطق الجمال فيها غائم غامض، ليس له مرجع سوى “جوف الشاعر” كما يقال، وقد أدت سيطرة حركات ما بعد الحداثة على الساحة الفنية في العالم إلى تراجع النقد كممارسة تقييمية تقوم على مقاييس جمالية واضحة، ليصبح هو الآخر تأويلاً انطباعياً لا تحكمه أية معايير فنية مشتركة، ومرجعه الوحيد هو الناقد الذي يمارسه، فهو قادر على تأويل العالم الفني الذي يصنعه الفنان بالشيء وضده، لأن غياب المنطق في الممارسة البشرية تعني الانفتاح على الفوضى .
العامل الثالث هو أن تجارب – الخلط بين الوسائط المتعددة في الفن وهي أيضا أحد مظاهر الانخراط في ما بعد الحداثة – جعلت النقد حائراً أمام هذه الظاهرة التي لم ترس بعد على بر يستطيع من خلاله النقاد تقديم مقاربة فنية لها، فهي ما زالت قيد التشكل، والتجريب الذي يكتنفه الخطأ والصواب، وقد أعطت هذه الظاهرة الأولوية ل”القيم” التشكيلي الذي أصبح صاحب الكلمة في اختيار الفنانين الذين يشاركون في المعارض، فيطرح على الفنانين رؤية معينة ليقدموا مشاريعهم الفنية حولها، ويختار الأعمال تبعاً لتلك الرؤية، أيا كانت الوسائط التي تنفذ بها الفكرة، ومن دون أن تكون هناك معايير فنية سوى تلك الرؤية التي يحملها المقيم في ذهنه .