التونسي حسين الواد في متاهة السلطة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد برادة 

 

«سـعادته… السيد الوزيـر» (دار الجنوب) رواية نُـشرت لأول مـرة في عـز انتفاضة ربـيع تونس، مـع أنـها كـُـتبتْ قبل ذلك بسنوات. وكاتبها حـسـين الـواد مـعروف في مجال البحث الأكاديمي والتـدريس الجامعي، له اجتهادات مـمــيزة في النقد الأدبي اقتــرنت بـتحلـيله نصوص المعري والمـتـنبي وأبو تمام من زوايا أماطت اللثام عن شـعـريتهم الأصيلة… وقد سبق له أن نــشـر رواية أولى (روائح المدينة، 2010)، أبــانتْ عن مـوهبته السـردية إلى جانب بـصيـرته النــقدية.

في هذه الرواية، تلفت البداية والنهاية النظر لأنهما تـنـبهان القارئ إلى أن الكاتب يـقتفي خـطى روايات كثيرة، شهـيـرة، يـزعم أصحابها أنهم عـثـروا على مخطوطها صدفة، فـعمدوا إلى نشـره. يضاف هنا، أن الكاتب أنهى الرواية بثلاث صفحات يخبرنا فيها، من طريق الصدفة أيضاً، أن مصيـر الشخصية الأساس التي ظـل مصيرها مجهولاً في مـتـن الرواية، قـد لـقي حـتفـه في مستشفى المجاذيب على يـد مجنون كان يقاسمه الفضاء.

 

بطل رغم أنفه

بـطل هذه الرواية، أو بالأحــرى البطل رغم أنفه، هـو مُـعلم مـتوسط الحال، اخــتاره مَـنْ بيدهم الـحل والـعقد، ليصبـح وزيــراً مـكلفاً بـ «الـمـوارد الطـبيـعية والــمـمـتـلكات». ومن الطبيـعي أن هذا «الانـقلاب» في حياة المعلم وأسـرته قـد أحدث مـا يـشبه الـزلزال، لأنـه كـشف المــستـورَ وراء جُـدران رئيس الجمهورية الــمـستـبدّ، وفي الآن نفسه فـجّــــــرَ المسكوت عـنه في أعماق المعلم المقهور الـمُـبــتـلـى بـ «قـوة الاشتـهاء»، بخاصة بعد أن طالت سنوات معاشرتــــــــــه زوجته وذبــول جمالها. على هذا النحو، يـتـراوح نص الرواية بيـن اســـتـبطان حياة المعلم واستحضار لحظات بارزة من مسـاره، وبـين تـمـثـيـل الطقوس والخـطابات التي يـلـجأ إليها الحاكم المطلق وزبــانيـته لتـدبير شؤون الدولة.

يـتخذ النص الأساس للرواية شكـلَ مُـرافعة يقدمها المعلم الذي أصبح وزيراً، يخاطب من خلالها «السيد حاكم التحقيق» بـعد أن أزيح مـن منصبه لـفـشله في إنجاز ما أراده الرئيس الأوحد، ولـيـنـفي عن نفسه تـهمة الخيانة والارتـشاء التي لـُـفقت لــه. ومـن خلال المرافعة، نـتـعرف إلى تفاصـيل من حياته منذ المراهقة، مـروراً بمرحلة التدريس ووصولاً إلى الأيام التي أمـضاها مـتـربعاً على كـرسيّ الوزارة. وهذا التـركيـب في شــكل الرواية أضـفى على المرافعة طابعَ المواجهة بـين مواطن لا يخلو من سذاجة، وقَـعَ في شـرَكِ السلطة، وبـين أجهزة جـهنمية تـتـولى تـنفيذ أوامر ونزوات الحاكم المطلق وحاشيـته. بعبارة ثانية، تغـدو المواجهة هي بين معلم «بـريء»(لا يحمل اسماً مثلما هي الحال بالنسبة لباقي شخصيات الرواية؛ باستـثـناء الخالة خدوج)، ظنّ أنه يستطيع أن يخدم وطـنه، وبـين دولة متسـلطة تستـخدم «الأبرياء» لـتـنـفـيذ صـفقـات مشـبوهة يغـتني من ورائها الطـفيلـيون الذين يريدون إضفاء الـمشـروعية على الدكتاتور.

كان الوزير، إذاً، قبل منصبه، يـزاول التعليم، قانعاً بوظيفته، متفاهماً مع زوجته وأبنائه، يـنـتـقد في الســرّ، مثل معظم المواطنين، الحكومة والنظام، ويـتـحايل لـيـزيد من دخله بـإعـطاء دروسٍ إضافية، ويستجيـب من حين لآخـر لـنـزوته الـشهـوانية بـاختلاس المتعة مع أمـهات التلاميذ الـلائي يـأتـيـن للتوصية بـأبـنائهــن… ويحدثنا المعلم كثيراً عن علاقته بـخالته «خـدوج» التي رفضت الزواج بعد موت زوجها وهي في عـز شبابها، فـكان هو يـتـردد عليها بانتظام، ويحلـــو لـه أن يـدفـن رأسه بين نـهديها ليشـم رائحتها الزكية، وكانت هي تبذل له الـود أكثر من ابنها، وتحاول أن تقود خطواته في مجال علاقاته بالنساء… وعـلاقـته بابن الخالة لا تـخلو من تـواطؤ وتـنافس على حب الخالة وعلى التفوق في انتزاع مكانة اجتماعية مرموقة. وهذا ما نجح فيه ابن الخالة إذ أصبح رئـيـساً للوزراء، بيـنما ظل هـو مـعلماً مهملاً. لكـن ابن الخالة المقرب من الرئيس اقتـرح ابن خالته المعلم ليكون وزيـراً طـيّــعاً تـُـمـرر من خلاله المشاريع المغشوشة… وهنا تبدأ مرحلة مختلفة من حياة المعلم الوزير. منذ حـفـْـل التعـيـيـن، استولى على لبّه الخطاب الرسمي الذي ألقاه ابن خالته رئيس الحكومة، مُـشيداً بالمعلم الذي كاد أن يكون رســولاً: «في هذا التـعـيـين تـكـريم لجميع المعلمين. وفـيه مـــن المعاني السامية ما لا حـصـرَ لـه ولا حــدّ» ص 64. صـدّق المسكين أنه اخـتـيـر لـنزاهته وأن دولة الاستـبداد تـسعى إلى خيـر العـباد؛ فانكبّ على الملفات وأكــثــرَ من الاجتماعات، ليحدد برنامجاً لوزارة الموارد الطبيعية والـمـمتلكات التي سـتـرفع بلده إلى صـفّ الدول الراقية. هـو لم يفكـر في الاختلاس أو قـبول الـرشوة مثل بقية الوزراء، بـل اكتفى بالاستجابة لـنقطة ضعفه الوحيدة التي يُـقــــرّ بها في مرافعته، وهي قـوة الاشتــهاء التي زادت من تــأجـجـها السكـرتيـرات الجميلات: «هــل الذنـب ذنبي، سيدي الرئيس، إذا كنتُ لا أرى امـرأة إلا تخـيـلتـُها مـعي في الفـراش؟ يـكفي أن تكون امـرأة حتى يكون الفـراش وراءها. شـيْءٌ خـُلـقتُ بـه» ص134.

ولم تـدم متعة المعلم- الوزيـر طويلاً؛ لأن الأوامـر صدرت إليه بـتـصفية بعض شركات الدولة في نطاق خـوْصـصةٍ يسـتـفيد منها أصحاب رأس المال المقربون من سـيادة رئيس الدولة، وكذلك بعض الدول الغربية «الصديقة»… ولأنـه من دون خبرة وغـيـر عارف بمـنطق الكواليس والـصفقات الـمُـريبة، فقد ارتكب أخطاء غير مقبولة لدى النظام وحلفائه من أصحاب المصالح؛ فـوجبَ التخلص منه وفق الوصفة المـعهودة: العـزل والاعتقال والمحاكمة الصورية، ثم إدخاله إلى مـستـشفى المجاذيب حيث يــلقى حـتــفـه.

 

خــسـرانُ الذات

مـعـلوم أن هناك روايات كـثـيرة في الآداب العالمية تـستـوحي ظـاهـرة الدكتاتورية والاستـبداد، وتـصور المآسي التي يدفع ثمنها المواطنون والمجتمـعات. لكــنها على كـثـرتها، تـستـجيب لـضرورة إنـسانية تـتـمـثل في الفضح والكشف وبلـورة الـوعي الـرافض لـكل الـمـمـارسات التي تحـتقـر الإنسان وتـصادر حـريته وتـلغي إرادته. ومثل هذا الموضوع يحمل في طـياته خـطـر الانـزلاق إلى الخـطاب الـمباشر الذي يــحـدّ من جمالية الرواية ومــتـعتها. لكن نماذج كثــيـرة، بخاصة لـدى كــتّـاب أميـركا الـلاتـينية، حـقـقـت تـوازناً بيـن الطابع السـياسي لموضوع الاستــبداد، والشكل الـفــنـــي المـمـتـع لـتـناوله. وهناك روايات عربية حققت أيضاً هـذا التوازن. وأجــدُ أن «سـعـادتــه… السيـد الوزير» حقـقـت المزاوجة المـطلوبة بـيـن تـشـريح جوانب من الاستـبداد، والعـثـور على شكل فنيّ يـتوسـل بالسخرية وتعـديد مستويات اللغة، بخاصة لـغات الأيديولوجيا الـتـمـويـهـية التي يـلـجأ إليها الـحكامُ الـمستـبدون لـتـخدير المواطنين وتـنـويم وعـيهم. يــضـاف إلى ذلك، أن الكاتب حـرص على تخــصيـص الرؤية من خلال إفساح المجال لـتفاصيل حياة المعلم- الوزير وحياة أسـرته، وجـعله طـرفاً في المعادلة المـجـسـدة لإشــكالية الاسـتـبداد. ذلك أن الانـحراف في السياسة لا يـعود فقط إلى رغبة شخصية أو نـزعـة شــريـرة لدى البعض، بـل هـو نـتيـجة تـفاعل عـناصر شتـى تـتـقاسـمها المؤسسات وأجهزة الدولة ووعــي الـفـرد المواطن. وفي الرواية، نجـد أن مـرافعة المعلم- الوزيـر تـنطلق من لحظة وعـيٍ مُـتأخـر يـنطوي على غـيـر قليل من المغالطة. إنـه يـحتـجّ ويـدين لأنه أدرك مـدى الخسـارة التي مُـنـيَ بها إذ قـبـل أن يـبـيــع نـفسه، ويـهمل أبـناءه وزوجتـه، ويــصطــنـع الـنـفاق والـخنوع من أجـل مُـتع تافهة تكشـف عن تـشـيـيـئه للـمرأة التي يـزعم أنها مـصدر سـعادته واسـتـمــتـاعه. هـو يـعـتـبـر المرأة جسداً من دون قيمة رمـزية تعـطي للعواطف معناها. وهذا الـتـشــيـيـئ له جذور في بـنـية المجتمع الذكـوري ولا شك، إلا أن المعلم لم يـعِ ذلك، فـظل يـردد في مرافعته أنه بـريء: «أنـا صــافٍ نـظيف، أصـفى من الكريســتال وأنـظف من الكــوبِ الـفارغ. هـل في المـسألة أكـثر من أني دُعـيتُ إلى خدمة بـلدي مثلـما يـدعى سـائر الناس إلى خدمة بُـلدانهم؟» ص 259.

من خلال مرافعة واعترافات المعلم- الوزيـر، يجعلنا الكاتب نـسـتـشف وعـيـه المغلوط وتناقضاتٍ كامنة في شخصيته. بعبارة ثانية، نجد أنفسنا في نهاية المطاف، أمـام سـؤال مـلغوم تـضافــرتْ عدة تفاصيل على صـوْغـه: هـل انحراف الـفـرد راجع إلى أوالـيـات تـتـعـدّاه موجودة في البـنـيات المجتـمعية-الـسياسية؟ أم أن الـفـرد مـسؤول أيضاً عـن الانحرف والخــيـانة، إذ يــقـبـل بالـطاعة الـعمـياء؟

لـقـد اســتـطاع حـسيـن الـوادْ، في «ســعادتـه… السيد الوزيــر» أن يـنـسـج ضِـمْـن حبـكة محـكمة، ولـغة مـتنـوعة المـستـويات مـطعمة بـعبارات دارجة مـضيئة، رواية مـمـتعـة تـنـضـح بالــسـخرية الـلاذعـة، وتـثـيــر لدى القـارئ أســئـلة عـن المـعضلة الـمُـزمـنة التي يـعاني منها الـعالم العربي والتي فـجّـرتْ هـبـّــاتٍ وانتـفاضات تطالب برحيل الـطـغاة الـمـسـتـبـديـن. وهـي، في الوقت نفـسه، رواية لا تـتـقـصدُ الانـتـقاد المباشر ولا الإدانة الـظـرفية، لأنـــهــا فـســحت لـلتخـيـيـل حـيّـزا ًنـَـقـلـَها من الظـرفي العابـر إلى مسـتـوى الكـوني الـمُـتــعدي لـسـياقه.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى