«الثائر» رواية الحيرة اليمنية المروّعة

الجسرة الثقافية الالكترونية-الحياة-

 

*سارة ضاهر

 

تلقى شخصيّة «الثائر» الكثير من الاهتمام بصفة عامة، وفي عالمنا العربي، بصفة خاصة، وهذا أمر طبيعي نسبة لتاريخ هذا العالم التقليدي القائم على الصراع الخارجيّ تارةً والداخليّ طوراً. لعلّ هذا ما دفع بالروائي اليمني محمد الغربي عمران إلى اختيار عنوان «الثائر» لروايته الصادرة عن دار الساقي. يتبيّن، بعد قراءة الرواية، أنّ الهدف أبعد بكثير من سرد حالة حرب، أو تسليط الضوء على حركة تمرّد، في فترة زمنيّة محددة من تاريخ اليمن السياسي، هي فترة الثورة على الإمامة من أجل تغيير النظام اليمني من الإمامة إلى الجمهورية. الهدف أبعد من ذلك. فالحرب، مثل السياسة، وهي نتيجة لها. وكذلك الرواية التاريخيّة أو الثوريّة، لا تروي بقدر ما تكون نتيجة لما حدث، ولتبث إشارات لما سيحدث.

إن قراءة الكاتب المستمرة لتاريخ اليمن وحاضرها، من خلال روايته الجديدة «الثائر» لا تخلو من ذلك التيه في غابة من علامات او إشارات ممارسة النزف الروحي الرائع. في حيرة مروعة، لا نهاية لها، الأمر الذي يؤدي إلى شيء آخر لم يكن ليتوقعه القارئ، إلى شيء مبهم، حتى يعود الموتى إلى الحياة ويصبح الخائن مكرّماً. وفي هذا التضليل محاكاة ساخرة، وهي ليست في الحقيقة، سوى رؤيا الكاتب لحقيقة الجريمة.

الولاء للوطن، أو السمة الرئيسة المتعارف عليها للثورة والثائر، تاهت في سجون التعذيب، ليبرز على الأثر سؤال واحد من شأنه أن يستمر طوال فترة الحرب – الرواية، وهو: ماذا أراد الكاتب أن يقول ؟ حين انتهت موضة الثوار الحقيقيين، وحلّ محلّهم مترقبّو النتائج، بما يمتلكونه من تمويه مادي؛ في الوقت الذي اختبأ فيه المزايدون والخائنون خلف الشعارات، والأعراف الاجتماعية، حتى بات، من السهل، إخفاء أدلة الخيانة الوطنيّة، والظهور بمظهر الأبطال. السياسيون، على ما يبدو، تمكنوا، ليـــس فقـــط من القيام بأفعال كبيرة كإدارة الفساد والخيانة، وإنما تمكّنوا من تنفيذ كل شـــيء في شــكل حاذق، حتى حافظوا على «كراسيهم» في مختلف الحقبات والمراحل، قبل الثورة وبعدها، وتحت ألوية عدّة. في أيّ بلد يحصل هذا كلّه؟ مَن يدري!

يبدأ السرد، مع «الملثم « أو «شيزان» أو البطل «قمر»، الراوي المطلق وبؤرة السرد. حيث هرب من السجن ومن حكم الإعدام، والتحق بالثورة، لكنّه أصيب، وخرج من المستشفى بنصف قامة، وكي يثبت لهم أنه ما زال يستطيع أن يقوم بما يقوم به غيره في الدفاع عن الثورة والجمهورية، طلب منهم نقله إلى جبهات القتال، حاملاً بندقيته على كتفه.

نتائج المعركة مرضية، لقد تمكّن الثوار من دحر المرتزقة في بلدة «جحانة»، وكبّدوهم خسائر كبيرة في الأرواح. كان البطل في المواقع المتقدمة يقاتل. وكان يتوقع في أي لحظة الاستشهاد، لكنّ الإصابة اقتصرت على عينه عندما كان يزحف على ذراعه، يتبع رفاق السلاح الذين يهرولون صاعدين، لينفجر لغم تحت أقدام أحد الرفاق كان يتقدمه بخطوات. سماء ملأتها خيوط سوداء، شاهده يطير أشلاءً. تلك آخر صورة يحتفظ بها رأسه لتصيبه زخة من الأتربة وحصوات. أحسّ بجمر يحرقه، تم إسعافه على عربة روسية عليها أكثر من عشرين قتيلاً، اعتذر له الأطباء وقالوا: «لا نستطيع إلاً أن ننظف محجري عينيك حتى لا يصل التلف إلى أعماق رأسك». احتفظ بذلك المنظر عالقــاً في كل وقت، ومذاك لا يعرف لماذا تضاعفت حاسة الشمّ لديه. بعدها تمّ إرغامه، على أن يكون ضمن فريق التحقيق مع الخونة. أخذت قوات الثورة تتقدم من ربوة إلى آخرى ومن وادٍ إلى آخر. « قمر» في مقدمة الصفوف، لا يعرف إلا أنه يريد الموت. لكنه ينتصر ولا يموت.

أراد صاحب رواية «ظلمة يائيل» الحائزة جائزة الطيب صالح، لبطله أن يتحدث عن ذكرياته كقاتل، عن صلاته بالسجون وفي غرف التحقيق، لكنه ما إن حرّك شــفتيه حتى أمـــطروه بأعقاب بنادقهم . ومن يومها تأكد له أنّ الكلام محرم أمام «الفندم»، وأخذ يشعر بحسرة لعدم الإدلاء باعترافات، بل ويحس بالاضطهاد. فأخذ ينتقم منهم ويقتلهم واحداً واحداً: قتل «المسوري» شاويش سجن الرادع وقطع أنفاسه بخيط حذائه. ثم بعد ذلك قتل الجلاد، وشيخ البلاد، والدويران، والأعمش…

 

النهاية المعاكسة

احتفال كبير بالنصر وفكّ الحصار عن صنعاء. بعد مرور ست سنوات على انفجار الثورة. كان «قمر» يجلس في مقدمة صفوف المكرّمين، إلى يمينه منصة كبار الضيوف، وإلى يساره جماهير خلف عازل من الحديد المشبك. جماهير تحكي واقع الحال: وجوه من دون عيون، ولا أفواه، وجوه فقدت حواسها.

شدّ ناظرَي قمر شخصيات منصة التشريفات، اعتقد أن ما يراه وهم، كرّر تفحص تلك الوجوه، خيّل إليه رؤية الدويدار بشاله الكشمير وجنبيته المذهبة، وإلى جواره ذو الوجه العظمي ببذلته العسكرية ونياشينه النحاسية المهترئة، المحقق حامل السوط بكابه الأحمر المهيب، شاويش السجن، شيخ بلاده بجسمه المتضخّم، الأعمش بلحيته الطويلة و عمامته الضخمة… شخصيات بعضها زاملهم في السكن الداخلي بالمدرسة العلمية وأخرى في سجون حجة والرادع. أموات بلا موت وأحياء بلا حياة.

سأل من يجاوره «إن كان يعرف أحداً ممّن على منصة التشريفات؟ ردّ متعجباً:

– قيادات الثورة، ومن لا يعرفهم؟»

وبهذا فإنّ كل الشخصيات التي صادفناها، سواء الثائرة أم المناورة السادية والقادرة على تشويه الحقيقة لمصلحة غاياتها الخاصة، أدّت دورها في رواية محمد غربي عمران. وأضفت على النص خلفيّة واقعية مفصّلة، للحياة الاجتماعيّة والسياسيّة اليمنيّة. ويتبيّن من ثم أنّ الغرض من الرواية، ليس قول ما هو معروف، والذي لا يشكّل مادة حقيقيّة في يد المؤلف الصحيح، بل إنّ تحرير صنعاء، وترك الكلمة الأخيرة للثائر، فيهما ما يكفي لكتابة هذه الرواية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى