الثقافة البصرية ازمة تلاحق الفن التشكيلي السعودي

 الجسرة الثقافية الالكترونية –وكالات – يُعد الفن التشكيلي في السعودية الساحة الأكثر اتساعا لاستيعاب التجارب الثقافية، لكنه حتى الآن لم يتمكن من إقناع المجتمع، ولا حتى الوسط الثقافي الذي يجاهد للانتماء إليه، بأنه واحد من «العائلة» الثقافية، ومكون أساسي في التعبير الإنساني للثقافة. هذا النمو الكبير في المساحة التشكيلية يجتذب تحديدا فتيات ينجذبن للوحة والفرشاة لتفريغ شحنات هائلة من الرغبة في «البوح» لا تسعها الكلمات، فغالبا ما تتسم لوحات الفتيات السعوديات بحس إنساني عميق الدلالة عن الواقع الذي تعيشه المرأة، والظروف الاجتماعية التي تكابدها.
لا غرابة أن تشتعل اللوحة بألوان صارخة أو عيون محدقة في أفق مفتوح يلسعه الانتظار، أو أيدٍ ممتدة عبر اللوحة، أو ظهر يستند إلى جدار النافذة..، وغيرها. وفي العديد من التجارب لا يحتمل اللون وحده وسيلة للتعبير فيجري استخدام خامات إضافية وإضفاء مسحة «زمكانية» على الصورة إمعانا في تحميلها شحنات من الإحساس العميق بكشف المكبوت.
التشكيليات تحديدا كن الأكثر جرأة في الخروج إلى الشارع والرسم في الطريق العام والحدائق والمجمعات التجارية والتعبير عن فائض من الوعي بجمالية اللوحة، وعبقرية الشكل الفني في ملامسة قضايا المجتمع ودور الفن التشكيلي في التعبير عن همومه.
لكن التشكيليين عامة ما زالوا يصطدمون بالصخرة الكبرى، وهي نظرة المجتمع ومثقفيه إلى أعمالهم، حيث ما زال الفن التشكيلي ينتظر «جواز» مرور للدخول لعالم الثقافة، وأن يحظى بمكانة تتيح له العمل كمكون أساسي في نهضة المجتمع وإحساسه بالجمال، وليس فعلا هامشيا يقام كتجميل للنشاط الثقافي وعلى هامشه.
المعضلة التي يتحدث عنها نقاد فنيون هي أن موقع الثقافة البصرية في المجتمعات العربية عموما ما زال محدودا، ولذلك فلا أحد يمنح الفن التشكيلي أو المسرحي حرية أكثر للتعبير.

السليمان: غيابه أحدث عرجا في المسيرة الثقافية

يرى الناقد والفنان التشكيلي عبد الرحمن السليمان أن هناك انفصاما في علاقة المثقفين أنفسهم بالمنتج الثقافي، حيث يسقطون من حساباتهم الفن التشكيلي كأداة من أدوات التعبير الثقافي وأحد أركان الثقافة، عادّا هذا الإشكال ساهم في تجريد الثقافة من أحد أهم مكوناتها.
السليمان يرى أن طبيعة المجتمعات العربية الميل للثقافة السمعية والشفاهية، ولذلك اهتمت عبر القرون بالشعر والأدب واللغة بشكل عام كمنتجات ثقافية، لكنها أغفلت كل ما يتعلق بالثقافة البصرية، كالمسرح والفن التشكيلي، ولاحقا التصوير والنحت وغيرها، بل حتى الثقافة السمعية لم تشق طريقها إلا بصعوبة بالغة، كالموسيقى والغناء والأداء. وهي أشكال جديدة في هذه المجتمعات.
السليمان، الذي اشتغل بالفن التشكيلي منذ ثلاثة عقود، ولديه عدد من المؤلفات في هذا المجال وأقام معارض متعددة، ترأس أيضا لفترات متعددة لجان الفن التشكيلي في جمعية الثقافة والفنون، ولكنه يرى أن أهم خلل تعرض له الفن التشكيلي كان من خلال المناهج التعليمية، حيث لم يكن التوصيل الدراسي يحدث عبر الطريقة الصحيحة، فبرنامج تعليم التربية الفنية في المدارس كان محدودا جدا ومحصورا في جوانب معينة، وحتى على مستوى النشاط.. وبالتالي لم تنتج ثقافة بصرية عالية، أو ينشأ الطالب على غرار الدارسين في أوروبا.
تحدث السليمان أيضا عن النقص الذي تواجهه الحركة التشكيلية في السعودية، من قبيل نقص المرافق الفنية كالمتاحف والكتب والموسوعات ودور عرض على المستوى العام والخاص، «وهي التي تمثل حواضن للفن التشكيلي، وبالتالي لم تنشأ ثقافة عامة تربط الفن بعموم الثقافة ويكون جزءا مهما منها».
يؤكد السليمان أن «غياب الاهتمام بالفن التشكيلي أحدث عرجا في المسيرة الثقافية، وعلاقتها بالواقع البصري، وتأثيره على المخيلة البصرية.. فعملية فهم أن الفن مجرد صورة مباشرة تحدث إشكالا، حيث يجري تعطيل الذهن على مستوى الذائقة البصرية». ورأى أن «الفن يوسع مدارك الحس الثقافي ويوسع العلاقة مع المحيط، وهذا هو دوره الحقيقي حيث يؤخذ من إطاره الهامشي، كما أن له دورا في ملامسة القضايا المجتمعة والجمالية والقضايا العامة في الحياة وعموم القضايا الإنسانية».
ويطالب السليمان بدور ثقافي وخاصة بالنسبة للعاملين في الحقل الثقافي، حيث المطلوب منهم رعاية وفهم الدور الحقيقي للفن التشكيلي، وكذلك الموسيقى والمسرح، وما ينطبق على المثقفين ينطبق على المؤسسات التي ترعى الثقافة وكذلك القطاع الخاص، حيث يتعين إنشاء دور للعرض واجتراح برامج للتبادل الثقافي الحقيقي والاهتمام بالمعارض واحتضان التجارب الجديدة، وأهم شيء تطوير بنية تعليمية حقيقية تراعي التأسيس لفهم حقيقي لدور الفن كجانب ثقافي.
جريدي: صوت المهمشين
في حين يرى الناقد الفني سامي جريدي أن «الخطاب البصري في المجتمع غير مقيد بحقيقته الثابتة لأنه في الغالب خطاب مأخوذ بالتماهي والانصهار مع تراكمات المعرفي والاقتصادي والسياسي التي هي في أساسها مفتوحة على قول الحقيقي لا التزييف وتغييب الواقع الاجتماعي». ويضيف: «حينما نتأمل تاريخية الفن عبر عصور ممتدة نجد أن ما مارسه التغييب السلطوي لطبقات معينة من المجتمع واجهه الفن بقوة، وواجهه بلغة بصرية جعلت من صراخه دويا على جدران وحوائط الشوارع والمدن». يضيف: «لهذا فإن من سبيل التمثيل نستطيع أن نقرأ انتشار كتابات العشاق وأهل الحب في شوارع المدن السعودية، وخاصة بالقرب من مدارس البنات، كرسم القلوب والعيون وكتابة النصوص الشعرية والأبيات والمقطوعات الغنائية، وهي أشبه ما تكون بإثبات حقيقي لوجود هؤلاء العشاق المهمشين، وذلك عبر رؤية بصرية لا أراها تنفصل عن حقيقة الأسوار العالية في المجتمع الذي أخذ الفن ينبش في عوالمه ويكشف عن عريه».

الضامن: اللوحة تقرأ النص
وهناك مبادرات قام بها تشكيليون للمزاوجة بين الثقافة البصرية والأدب، من بينها تجارب مركز إبداع الثقافي في تحويل أعمال شعرية إلى فن تشكيلي. ويقول الفنان التشكيلي عبد العظيم الضامن، مدير ملتقى «إبداع» الثقافي، إن الفنانين التشكيليين السعوديين «طموحون بشكل كبير في خلق حوار ثقافي تشكيلي وفي أن يكون للفن التشكيلي تأثيرا في خلق حوار ثقافي من خلال العديد من الممارسات الثقافية، وقمنا بالعديد من المبادرات، منها: قراءة النص الشعري لونيا، وإقامة ورش عمل في المحبة والسلام، وهكذا العديد من الأنشطة المقاربة بين اللون والحرف والكلمة التي بدورها تحاور الفكر والمعرفة». يرأس الضامن مركز إبداع الثقافي، الذي يحتضن عشرات التجارب التشكيلية ويقوم بمبادرات فنية محلية وإقليمية لإقامة المعارض المشتركة وتصميم برامج للتبادل الثقافي. وهو يقول إن مركز إبداع يقيم في العام الواحد قرابة خمس وعشرين فعالية ثقافية تتنوع بين أمسية وندوة ومعرض وورشة عمل، علاوة على العديد من الدورات التدريبية.
وكان الضامن قد قاد فريقا من خمسة آلاف فنان تشكيلي شاركوا رسم «أطول لوحة جماعية في العالم»، وذلك في الواجهة البحرية بالدمام، وبدأ العمل على تلك اللوحة مطلع عام 2005.
وتبلغ المساحة الكلية للوحة 1250 مترا مربعا، وجالت اللوحة منذ بدء العمل فيها على 25 عاصمة عربية وعالمية، شارك في رسمها عدد من الشخصيات، وهي مقتبسة من مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حين أطلق مؤتمر حوار الأديان، وتوقع الضامن أن تدخل هذه اللوحة التي تسعى إلى نشر ثقافة التسامح والسلام بعد الانتهاء من رسمها موسوعة غينيس للأرقام القياسية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى