الثقافة العربية تحتوي على الملاحم الدرامية الشعرية

الجسرة الثقافية الالكترونية
لقد حظيت أيام العرب الشهيرة في العصر الجاهلي مثل يوم البسوس وداحس والغبراء ويوم ذي قار باهتمام الباحثين والدراسين، خاصة الجانب الفني فيها الذي صاغ فيه الشعر الحدث التاريخي، وسجل عادات العرب وديانتهم وعقليتهم، كما سجل الملامح الجغرافية في شبه جزيرة العرب والنباتات والحيوانات، وما كان العرب يعتنقون من خرافات وديانات وأصنام.
يحاول الدكتور فريد سرسك في كتابه “الملامح الدرامية في شعر أيام العرب” الصادر حديثا عن “المستشارون” للنشر والتوزيع في عمان، أن يبحث عن الملامح الدرامية في شعر تلك الأيام بما فيها من مفارقات وتداعيات وصراع وحوار ومناجاة داخلية.
ويبين الدكتور سرسك أن الشاعر الجاهلي لم يعمد إلى البناء الدرامي بطريقة منهجية بحيث يصح معها أن نطلق بالجملة على الشعر الجاهلي أنه شعر درامي، لكن الملامح الدرامية تقرب الشعر من الدراما بالمفهوم الذي تطرحه الدراسة في تعريفها للدراما “بأنها الشعور بأننا نحضر، بل إننا في الواقع نلعب دورا في فصل مهيب”.
وقد سلط الكتاب الضوء على الدراما من خلال مستويين اثنين، مستوى خارجي اهتم بعناصر البناء الدرامي التقليدي من صراع وحدث ومكان وزمان وحوار وعقدة، ومستوى داخلي عنى بإعادة تشكيل النص من داخله من خلال تداخل وظيفي حرصت الدراسة على التدليل عليه بين تقنيات نفسية كالاغتراب والتشويق والمونودراما والمفارقات الدرامية مستفيدة من بعض التقنيات اللغوية كتبادل الحواس ودور علم المعاني في صناعة الصورة الصوتية والصورة البصرية، بحيث تتفاعل التقنيات اللغوية مع النفسية وتصنع كل منهما الأخرى.
وهذه التقنيات اللغوية ليست بعيدة عن الدراسات اللغوية والبلاغية، غير أن الباحث حاول توظيفها في الإطار الذي يجعلها صانعة للحدث الدرامي والمفهوم الدرامي داخل بنية النص اللغوي، فهي كما شبهها الدكتور فريد سرسك دحرجات لغوية حركت سكون المشهد من خلال خشونة اللفظ أو انسيابيته أحيانا.
جاء الكتاب في أربعة فصول وسبعة عشر مبحثا، تحدث الباحث في الفصل الأول عن الدراسات النظرية في الملحمة والدراما قديما وبخاصة الشعر الملحمي عند أرسطو ومكانها في الأجناس الأدبية، وأصول الدراما ولغتها القصصية والملحمية، ويطرح فكرة درامية البيئة العربية ووجود الشعر الملحمي في الثقافة العربية.
وفي الفصل الثاني تحدث الباحث عن عناصر البناء الدرامي في شعر أيام العرب مقاربا بين فكرة الحروب العربية وبين فكرة الصراع الدرامي، وتناول العناصر الأساسية في العمل الدرامي كالمكان والزمان والشخوص والمؤثرات البصرية والمؤثرات الصوتية مستعينا بالتعريف الأرسطي للدراما ومنفتحا على التطور في المفاهيم الدرامية في العصر الحديث.
ويعرض الباحث في الفصل الثالث عناصر الدراما النفسية، ويركز فيه على فكرة الخيال والتذكر والمناجاة الداخلية والاغتراب والمفارقات النفسية عند شاعر الأيام.
وفي الفصل الرابع تعرض الدراسة لبعض النصوص التطبيقية وهي معلقة عنترة العبسي، بطل داحس والغبراء الذي قاد صراعا ضد التفرقة العنصرية والعبودية، ومعلقة الحارث بن حلزة الذي استطاع بمشاهده الملحمية أن يؤثر على الملك عمرو بن هند مما دفعه إلى الانحياز إلى البكريين دون التغلبيين، فكانت معلقته ملحمة درامية عبقرية يمكن وصفها وتصنيفها ضمن الملاحم الشعرية السياسية.
أما ما يخص اللغة فقد فرق الباحث بين لغتين: لغة العمل الدرامي كما هو النص في العمل المسرحي مثلا، ولغة الدراما التي تشكل المشهد الدرامي وتثير عناصره فتشعل الاضاءة وتثير الصوت فتنتج المعادل الصوتي والبصري، وهي اللغة التي تصطرع فيها الأحداث فتصعب وتسهل وتسرع وتبطيء وتندمج أو تنفصل، وهي فكرة الدراما في الشعر التي تستقدم تقنيات الدراما في داخل العمل الأدبي.
إن لغة القصيدة الجاهلية التي تحاول هذه الدراسة أن تؤطر لها، ليست هي لغة قصيدة النثر ولا القصة القصيرة وهي ليست كذلك قصيدة السرد بل هي لغة النص الذي يوصف بأنه قوة متحولة وعمل لا نهائي مفتوح، يشارك فيه القاريء في إنتاجه ولا يبقى مجرد مستهلك له.
والعمل الأدبي كما يؤكد الباحث لا يتحقق جماليا في النص ولا في فعل القراءة وإنما على وجه التحديد في هذه المنطقة التي ينصب فيها النص والقراءة معا، بحيث لا يعود المتلقي منفعلا بالنص ومستسلما له، بل فاعلا ومنتجا له.
ولم تتناول الدراسة قدرا كبيرا من الجغرافيا والتاريخ والايدولوجيات، وإن كانت لم تهملها أيضا في منهج بنيوي لغوي جمالي يضطلع بالدخول إلى ثنايا النص والتقاط تحركاته التصويرية في سياق البناء اللغوي المتكامل الذي يجعل علم الصوت في خدمة علوم البيان ويجعل علوم المعاني في خدمة التحرك الدرامي داخل النص، ويحاول أن يبحث في ملامحه الظاهرة والباطنة ويرى المشهد بأبعاده الصوتية والحركية والبصرية والنفس حركية.
وقد استطاعت هذه الدراسة أن تقدم موالفة بين المفاهيم القديمة للدراما حسب التفسيرات الافلاطونية والارسطية وبين التوسع في مفهوم الدراما في عالم المسرح والسينما فجعلت النص اللغوي قادرا على تشكيل مشهده عبر الطاقة الكامنة فيه، وجعلت من اللغة مصورا بارعا ومن الشاعر مخرجا بارعا يقدم لوحاته من خلال نصه كما تقدم الدراما على الشاشة او على خشبة المسرح.
المصدر: ميدل ايست اونلاين