الثقافة في مواجهة العنف… صمت أم تواطؤ؟

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

عبده وازن 

 

لم يكن ممكناً تصور رجل ملتح يعتلي خشبة مسرح وسط ضوضاء الموسيقى ويطلق النار عشوائياً على الجمهور من رشاشه فيردي العشرات تلو العشرات… هذا مشهد غير واقعي مهما تمّ تأويله. قد يحدث في السينما وعلى شاشات الألعاب الالكترونية، أما في الواقع فلا. مشهد يفوق الواقع من فرط غرائبيته ومغالاته في الإجرام المجاني ظاهراً. لا يعرف القاتل أحداً من ضحاياه، ولا يكرههم كأفراد ولا ثأر شخصياً بينه وبينهم. ولعله أصلاً لا يقتل الافراد، هذه ليست بجريمة مقدسة، هذا عمل يقوم به صغار القوم، اما هو فمنذور للقتل الجماعي، هذا القتل الذي يحمل في قرارته أجوبة ويقدم أضاحي جماعية على مذبح الفكر الظلامي بحثاً عن الغفران الذي يفتقده عالم الكفرة وما أكثرهم…

نودع العام 2015 متذكرين هذه الحادثة الارهابية الرهيبة التي لم تغب أصلاً عن عيوننا، تماماً مثلما ودعنا الاعوام السابقة التي كانت موسومة بالدم والخراب. العنف قدر عالمنا العربي وسيكون صعباً تجاوزه سواء في سورية او العراق او اليمن او ليبيا وسائر البلدان التي تبدو عرضة لأعمال العنف الاصولي. أما فلسطين فهي الضحية الاولى والابدية ما دامت الآلة الاسرائيلية تفتك بأهل الارض وبيوتهم وأحيائهم وحقولهم ومقدساتهم… ولا يمكننا ان ننسى مشاهد القتل اليومية في مدن فلسطين وقراها، وكيف خلق العنف الاسرائيلي الغاشم حالاً من العنف البريء الذي يمارسه الفتيان شاهرين سكاكينهم بعدما شهر الاطفال حجارتهم ورموها على جنود الاحتلال. ومهما بلغ عنف الفتية والشبان الفلسطينيين فهو يظل شرعياً ووطنياً و»بدائياً» ازاء الآلة الاسرائيلية الاسطورية. انها العين التي تقاوم المخرز، وستظل تقاومه حفاظاً على الضوء الذي تراه في آخر النفق.

لا يمكننا ان ننسى مشهد الاطفال السوريين الذين سقطت عليهم قنابل غاز السارين التي اطلقتها مدافع النظام فقتلتهم خنقاً من دون ان تشوّه أجسادهم. وبدا منظرهم ممددين على الارض صامتين ومفتوحي الاعين، ابوكاليبسياً يفوق الوصف.

لا يمكننا ان ننسى مشهد الرجال الذين اقتادهم تنظيم «داعش» الى الشاطئ ليذبحهم واحداً واحداً ويلون ماء البحر بدمائهم.

لا يمكننا تناسي مشاهد براميل البارود تتساقط على أهل سورية الفقراء وعلى أحيائها المعدمة مثل سلال خبز يرسلها النظام من السماء بسخاء وألفة.

لا يمكننا أن ننسى مشاهد السيارات المفخخة تحصد القتلى في مدن العراق مثلما تحصد النار سنابل حقول القمح.

لا يمكننا أن ننسى مشهد الطيار الاردني الذي عزله جنود «داعش» في قفص مثل حيوان أليف وأضرموا فيه النار ليحترق ويعيش رهبة احتراقه لحظة تلو لحظة.

لا يمكننا ان ننسى منظر الهاربين في المراكب من جحيم النار تتقاذفهم الأمواج فيغرقون رافعين أيديهم ولا من استغاثة. وكم كان عنيفاً ورقيقاً منظر الطفل الذي رماه الموج على رمل الشاطئ بعدما ضاق به البحر الكبير. هذا هو العنف الشديد عندما يكون رقيقاً رقة هذا الطفل الذي لم يرحمه القدر.

باتت الذاكرة مملوءة مشاهد لا يمكن محوها ولا التخلص من أثرها الأليم ووقعها الشنيع، حتى انها اختلطت بعضاً ببعض من شدة عنفها وشدة الإبهارالذي تحدثه في العيون فلا تبقى قادرة على النظر.

العنف هو العنف مهما تعددت صوره وطرائقه. لكنّ العنف الذي يمارسه «داعش» واسرائيل والانظمة العربية الديكتاتورية والطائرات على اختلاف هوياتها لا حد له ولا أفق ولا… عنف كأنه للعنف فقط، للقتل والإبادة والترويع والسحق والتدمير. لم تعد من خطوط تفصل بين النيران والاهداف، بين الاعداء والاصدقاء، بين الابرياء والقتلة. «بازار» هائل من القصف والتدمير والقتل والحصيلة واحدة: خراب هائل وضحايا لا يُحصون. وكانت تنقص طائرات الامبراطورية الروسية لتتسع رقعة الخراب والقتل والغاية المعلنة حماية نظام بائد.

العنف هو العنف ولكن ما أرحم العنف الذي نقرأ عنه في الكتب أو نشاهده في الأفلام، حيال العنف الذي يحلّ على عالمنا مثل اللعنة القدرية. لا تستطيع المخيلة أن تجاري عنف «داعش» وأشباهه الاصوليين، المكشوفين والمقنّعين. ليس عنف القتل والقمع والتعذيب والعزل والاغتصاب بعنف أمام هذا العنف المستشري بلا رحمة. وكذلك عنف الاب والزوج وعنف الحق والعدالة وعنف الصورة واللغة والانترنت… هذا عنف حيواني، بل أشد حيوانية من عنف الحيوانات، التي كما يقول رينيه جيرار في كتابه الشهير «العنف والمقدس»، لا تتعارك في ما بينها حتى القتل، عندما تكون من النوع نفسه، فالحيوان المنتصر يحمي ضحيته، أما «النوع البشري فهو مستثنى من هذه الحماية».

العنف في الكتب هو غير العنف الذي نشهده في عقر الدار ومن حولنا. كان نيتشه يمتدح العنف معتبراً إياه الحصيلة الطبيعية لإرادة القوة. أمّا جان بول سارتر، فالعنف بنظره «يبرر نفسه في كونه يحارب العنف، أي انه رد فعل ضد عنف الآخرين». ومضى كارل ماركس في شرعنة العنف الثوري فهو كما يقول «مولّدة- أو قابلة- التاريخ». ومثله مدح والتر بنيامين هذا العنف (الثوري) بصفته «عنف المقموعين ضد القامعين». كان بعض الدعاة الاخلاقيين يربطون استشراء العنف بغياب فكرة الخالق، فإذا لم يعد موجوداً فكل شيء يباح. هذا ما يمكن معاكسته مع «داعش» الظلامي الذي لا علاقة له بالدين ولا بالايمان. وكم يستجلب عنفه العنف الذي شهده التاريخ التوارتي. «كل قوى العنف لا تقدر على إضعاف الحقيقة، بل هي تسهم في إنهاضها أكثر فأكثر»، يقول المفكر الفرنسي باسكال في «الخواطر». هذه كلها آراء جميلة ومفتوحة للنقاش والسجال. لكنها تظل آراء مكتوبة على ورق بينما العنف يضرب بشدة حارقاً الكتب والاوراق والآراء…

نودّع عاماً ملطخاً بالدم والسواد لنستقبل عاماً قد يكون أشد عنفاً وخراباً. ليس في الأفق ما يدل على ان السلام – أي سلام – مزمع على الحلول. لكنّ الانتظار يظل هو الحل الوحيد الذي يمكن الركون اليه. فلننتظر.

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى