الثورة في أشعار حسن فتح الباب وحسن النجار

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 السيد نجم

تسعى الكائنات الحية وبالفطرة إلى التحرر من الأضرار, وذلك بفعل بيولوجي (حيوي), وهو الواضح في فعل التقيؤ والعطس وغيره للتخلص من السموم والأضرار. مثل تلك الأفعال البيولوجية لا تعد أفعال مقاومة، ولا تشي بالوعي، لأنها غير إرادية.

 

إلا أنه مع (الوعي)، بمضي الوقت واكتساب الخبرات, يكتسب المرء (وبالتكيف) قدرا مناسبا من السلوك المقاوم من أجل التحرر.

 

درس العالم “ب. ف. سكينر” تلك الحالة وانتهى إلى ثلاث صور من الخلاص:

 

الهرب.. أي الإبتعاد عن المتاعب في محاولة سريعة لتجنب المشاق. وغالبا ما يتجلى ويصبح وسيلة ملحة عندما تزداد الظروف البغيضة.

 

والهجرة.. هي ترك البيت أو البلاد، بل أحيانا بالإنسلاخ من حضارة ما (كما يفعل الهيبى) أو الهجوم.. على من ينظمون أو يتسببون تلك الظروف الشاقة غير المحتملة.

 

بتلك العتبة نسعى للإقتراب من شاعرين مصريين تتسم أشعارهما بقدر غير قليل وملاحظ من مفهوم “المقاومة”، المقاومة بالمعنى الإصطلاحى الذى نحته ضمن اهتمامى بتنظير أدب المقاومة فى أكثر من كتاب، حيث “أدب المقاومة” هو:

 

“أدب الجماعة الواعية بهويتها، الساعية إلى حريتها، فى مواجهة الآخر العدوانى، من أجل الخلاص الجماعي”.

 

بالإقتراب من مجمل أعمال الشاعرين: حسن فتح الباب وحسن النجار، تتجلى سمة المقاومة سمة جوهرية فى قصائدهما. قد يبدو مناسبا اختيار ما تم التعبير به عن ثورة 25 يناير2011.

 

حسن فتح الباب

 

ولد بالقاهرة عام 1923، التحق بكلية الآداب، وبعد أن قضى عاما، قرر أن يدرس الحقوق ليحصل على الليسانس في عام 1947. ويعمل فى مجال الشرطة. بدأ بكتابة الشعر العمودي، ولكنه، تحول إلى شعر التفعيلة، في ديوانه الأول “من وحي بورسعيد” حيث مزج فيه بين الشعر العمودي وقصيدة التفعيلة، لتأتي بعد ذلك دواوينه كلها خالية من الشعر العمودي، إلا من ثلاث قصائد.

 

السمة المشتركة في أشعاره التغني بالحرية كما في “فارس الأمل”، كان موقفه من شعر النثر جيدا للغاية، فرغم أنه لم يكتب أبدا قصيدة النثر، فإنه خرج برأي يعد فريدا مقارنة بآراء أبناء جيله الذين حاربوا من أجل حريتهم في كتابة قصيدة التفعيلة، ثم حاربوا الأجيال التالية.

 

رحل عن عالمنا حسن فتح الباب عن عمر يناهز 92 عاما مخلفا وراءه أثرا أدبيا عظيما بين الشعر والنقد والتأريخ، والثورة.

 

حسن النجار

 

المولد عام 1938، قرية بابل منوفية .تخرج في الجامعة بعدد 2 ليسانس: علم النفس 1962 وعلم الاجتماع 1964 .فى عام 1959 نشر أولي قصائده في مجلة “الشهر”، ثم مجلة “العالم العربي” ومجلة “الأدب”.

 

كان ملهمه في تلك الفترة الشاعر اللبناني خليل حاوي، ونشر ديوانه الأول “فصل في التراجيديا الريفيىة” في عام 1964 بعد تخرجه في الجامعة تم تأدية الخدمة العسكرية، لكنها إمتدت إلى ما بعد 1975م في حروب دائمة، وفي العاشر من أكتوبر أصيب وكان ديوان “الوقوف بامتداد الجسد علي قصيدة الساعة الثانية” خلاصة تجربة أحد عشر عاما بعد صمت طويل من المعاناة .وقال عنه الناقد الراحل أحمد محمد عطية عنه “أجمل ما قرأنا من شعر عربي .”

 

وجوه في الميدان

 

والآن ماذا يعني رصد تاريخ كتابة قصيدة ما أو العمل الأدبى عموما؟ هل من ضرورة فنية؟ هذا هو السؤال الذي فرض علي قدرا من التفكير فور تصفح مجموعة شعرية للشاعر المخضرم حسن فتح الباب بعنوان: “وجوه فى الميدان”. ومجموعة القصائد المتتالية (بلا تاريخ) حول الثورة أيضا، إلا أنها تشير إلى أن كتابتها تزامنت مع الأحداث أولا بأول.

 

صدرت المجموعة ضمن سلسلة “إبداعات الثورة” عن هيئة قصور الثقافة فى عام2012، وهو تاريخ جيد للنشر حيث تلاحظ أن أول قصيدة كتبت يوم 25 يناير، بينما آخر قصيدة في 21 مارس2011، فيما أرفق مجموعة صغيرة تحت عنوان جامع “نذر وبشائر 25 يناير”.

 

الشاعر حسن النجار

بينما صدرت مجموعة قصائد حول الثورة للشاعر حسن النجار ضمن كتابه “الأعمال الكاملة” أو الأعمال الشعرية للشاعر ضمن ديوان “هناك أكثر من غابة”. صدرت الأعمال في عام2013.

 

أما أن يتابع الشاعر الأحداث فور حدوثها، فهى خصلة تخص الشعر بالعموم، ربما لأسباب تقنية على العكس من الرواية مثلا، ومع ذلك يبقى للشعر رونقه في التعبير عن الحدث، وهي الخاصية التي تميز بين شاعر وآخر. ونحن بجوار شاعرين خبرا أسرار القصيدة، ولم يسقطا في المباشرة والأيديولوجية والصوت الزاعق.. بقي للشعر أريجه وعطره الفواح.

 

يقول حسن فتح الباب في “من أحاديث الشهداء”:

 

“صعدت كالمسيح عاليا/ الى السماء/ لم أقض غير ساعة/ حتى حننت للوطن/ نويت أن أعود/ لأرضنا مصافحا/ أيادي الرفاق/ معانقا صدر الذي/ أحببت مذ ولدت/…”

 

ويقول حسن النجار فى “قصيدة الميدان”:

 

“كان اليوم في تاريخ الأيام جمعة غضب/ صعد المغني والمكبر والسياسي منصة/ الاداء:

 

يروون عن امرأة كانت عارية/ الا من ورق التوت/ شاهدها رجل في ميدان التحرير/

 

فك عن الرسغين القيد طواها بين جناحيه/ وألبسها من كل دواليب الاعياد/ ثياب العرس/…”.

 

تتوالى الأحداث، يهتف من يهتف ويسقط من يسقط، ويبقى للثورة أصداؤها بمضي الايام، ففي الايام التالية للبدايات الساخنة الملتهبة، استقبلها فتح الباب والنجار، كل بطريقته ورؤيته.

 

فقد حرص “فتح الباب على التوالي الزمني، راصدا بإخلاص مشاعره مع كل جديد ومنتظر، ومن يقرأ مجمل الاعمال يعلم بعضا من أحداث تلك الفترة.

 

“ألقى بي القطار في محطة محتشدة/ رأيت فيها من رأيت/ غير أن من بحثت عنه لم أجده/..

 

..وجها حزينا قد رأيت/ فانتشلته من الزحام/ آويته.. نادمته/..

 

..ان كان في يدك/ حبة قمح/ ثم حان حين ساعتك/ فشق في التراب حفرة لها/ فسوف يجني الشعب في غد/ ثمارها.. مليون سنبلة/..

 

كان الطبيب الألمعي/ دنياه مستشفاه/ معمله هما نبض الحياة/ واليوم يقضي ليله ونهاره/ في ساحة التحرير/..

 

تلك هي بدايات بعض القصائد التي رصدت أحداث أيام الثورة الاولى حتى خبر تنحي حسني مبارك عن الحكم.

 

أما الشاعر النجار فقد تماهى مع الاحداث اليومية بطريقته الخاصة، فيقول:

 

“في هذا اليوم القاري/ افترش العشاق دوائر ميدان التحرير/ يبنون صروحا لبلاد لا يسكنها/

 

غير مغنيها من هذا الجيل:/ ــ من كان على طبع هواها/ فليدخل../ ـــ ومن كان على غير هواها / فليرحل.

 

“إذا زلزلت الأرض زلزالها …. “/ حجرٌ علي طرَف البسيطة/ يستدير كأنه مستودع الأشعار/ هذا من تفاعيل القدر/

 

“لافتة خيلٍ مرقتْ على هذا البستان/ الماء يجري من جداول طيبةِ المذاق/ والفاتحون الأوائل/

 

يبنون خياما في الميدان/

 

في ليلة سقط الظلام علي بلادٍ/ ظنها الشعراء قرطبة الملاحم/ فاستراحوا تاركين سيوفهم،

 

وخيولهم،/ ومتاعهم/ في ذلك المأوي،/ وناموا ../ كانت الأرض انتفاضة ثورة مغبرة/.

 

قد يبدو من المفارقات النادرة أن يجىء عند الشاعرين ما يشي باشتراكهما فى قصيدة واحدة في العنوان والمتن، وما كان ليحدث ذلك إلا لأن الموضوع المطروح في حديقة الشعر هو ثورة 25 يناير؟!

 

يقول “حسن فتح الباب” في قصيدة بعنوان “نبوءة”:

 

“نبؤتي قد كانت المهمشين الفقراء يشعلون/ شرارة الغضب/ يدمرون.. يسفكون/ دماء من طغى/

 

ومن نهب/ كأنها محرقة الباستيل../..”

 

ويقول حسن فتح الباب في قصيدة نفسها:

 

“أنبأني صوتُكَ أن العامَ القادم/ سيكون مليئا بالأحداث المروية/”

 

مدنٌ تتهاوي/ وعروشٌ فاقدةُ الهمة” /

 

لنجلس بين الأطفال/ نعلمهم/ أن اليوم هو الغد/ وأن قرابين الميلاد/ هي الأصلح أن تتواري/ في ظل الأشياء/.

 

هكذا كان الشعر سباقا كعادته، وفي النموجين الشعريين صدقت نبوءة الشعر دوما، هكذا دور الفن والأدب في الزمن العصيب، هكذا عبر الشعر عن أحداث ثورة 25 يناير، من خلال نموذجين مختلفين في التناول وربما ينتميان إلى جيلين متتالين، ثم كان التعبير الشعري لحادث جلل لا يمكن ملاحقته إلا شعرا، مع بداية الأحداث الثورية.

 

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى