‘الجزري’.. مهندس الحضارة العربية ومخترع الآلة

 

 

 

 

عبر الحضارات المختلفة، تصدر فكرة أن اختراع الآلة كان في الغرب مع بداية عصر الصناعة، إلا أن الأمر له بدايات وجذور لجهود علمية متراكمة بدأت في الحضارة العربية الإسلامية، على اليد المهندس العربي الجزري الذي اخترع أول آلة ذاتية الحركة في التاريخ، والتي مثّلت النواة للآلة والمحرّك على شكله الحالي.

 

يُعتبر بديع الزمان أبوالعز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري، الذي وُلد في جزيرة “ابن عمر” بتركيا ومنها جاء لقبه “الجزري”، من أوائل مَنْ فكروا ونجحوا في صنع آلات ذاتية الحركة، تعمل من دون قوة دفع بشرية، وقد احتوى كتابه “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل”، على مخططات لمائة آلة ميكانيكية وكيفية صنع كل واحدة منها، وطريقة تشغيلها، وقد استخدم الجزري الماء المتدفق وسيلةً لتشغيل اختراعاته.

 

ومن أبرز اكتشافات الجزري النظرية التي تقول “إن الحركة الدائرية يمكنها أن تولّد قوة دافعة إلى الأمام”، ومنه استطاع اختراع عمود الكامات، وهو العمود الذي يدور بضغط مكابس المحرك فتتولد قوة دافعة للأمام كما يحدث في محرك السيارة. وهذه التقنية الجديدة ساعدت الجزري في بناء مضخات مياه دافعة، تمتّعت بتقنية الحركة الذاتية من دون قوة دفع حيوانية. كما استخدمها في صناعة تحف ميكانيكية الحركة غالباً على شكل طاووس، حيث استخدمت في قصور “بني أرتق” التركية، التي كان الجزري يشغل منصب كبير المهندسين في بلاطهم.

 

ويُعدّ اختراع الجزري “عمود الكامات” النواة التي تلقفها الغرب بعد قرنين، وبنوا عليه حتى توصّلوا إلى اختراع المحرك، وبدأ عصر القطارات البخارية التي كانت العمود الفقري للثورة الصناعية، وعصر النهضة الأوروبية في القرون الوسطى.

 

لم تتوقّف الإسهامات الحضارية لهذا المهندس العربي النابغة عند اختراع الآلة وعمود الكامات، بل اخترع أدقّ ساعة شمعية في التاريخ، قدمت فكرة ما يُعرف اليوم بـ “ستوب ووتش” لقياس الزمن الذي تستغرقه عملية ما.

 

واستخدم الجزري في هذه الساعة تقنية لم يسبقه إليها أحد ولا تزال مستخدمة إلى يومنا هذا، وهي تقنية توصيل الأجزاء بطريقة الفحل والأنثى.

 

وعن تلك الساعة، يقول د. دونالد هيل، المهندس والمؤرخ الإنجليزي: إنها احتوت على تقنية الحركة الذاتية، وذلك عن طريق شمعة وضعت على صحن خفيف تحته أسطوانات، وكلما احترقت الشمعة وخفّ وزنها دفعت الأسطوانات الصحن إلى الأعلى بشكل مستمر.

 

من بدائع ما صنع الإنسان إلى اليوم ساعة الفيل، فهي ساعة على شكل فيل، تعمل عن طريق نظام ماء متدفق في بطن الفيل، الذي صنع بطريقة رائعة، حيث قام الجزري بتقسيمه إلى ستة أجزاء، كل جزء يحمل عناصر ثقافة معنية وهي العربية والفرعونية والأفريقية والإغريقية والصينية والهندية، وصنعت من تلك الساعة نسخ عديدة وضعت في عدة دول، منها متحف سويسرا المتخصّص في تاريخ تطوّر آلات قياس الوقت، كما توجد نسخة فائقة الدقة في جامعة الملك سعود بالعاصمة السعودية، وأخرى معروضة في مجمع ابن بطوطة للتسوق في دبي بالإمارات.

 

وكان للجزري دور في اختراع الساعات الميكانيكية الحديثة، حيث قدّم اختراعين كانا أساس صناعة الساعات في أوروبا، الاختراع الأول هو المسننات الدقيقة، والثاني هو ميزان الساعة، وهو الجهاز الذي يحافظ على ثبات سرعة دوران المسننات، أي أنه يحافظ على عمل أجهزة الساعة بوتيرة واحدة، ما ساعد على ظهور الساعات في القرن الخامس عشر.

 

وفي مجال الإنسان الآلي كان للعرب بصمتهم، حيث صنع الجزري أول نسخة بدائية من الآلات التي صنعت بصورة إنسان، وتعمل بوظيفة مبرمجة لها مسبقاً، وكان منها آلة على شكل خادمة أنثى، بجانب حوضي لغسل اليدين، حيث تقوم الخادمة الآلية بملء الحوض بماء نظيف. أيضاً اخترع فرقة موسيقية تطفو على سطح الماء مؤلفة من شخصيات عدة، كل واحدة منها تصدر صوت آلة موسيقية معينة. وقد صنع هذه الآلة خصيصاً لتسلية ضيوف البلاط الملكي في ديار بكر.

 

وعن فرقة الجزري الموسيقية، يقول د. مارك إي رتشمان، في كتابه “تاريخ تطور الإنسان الآلي”: على عكس الإغريق، فإن الأمثلة في الحضارة الإسلامية للإنسان الآلي لا تعكس تطوّراً مفصلياً في التصميم فحسب، بل تعكس توجهاً لاستخدام الموارد المتاحة لراحة الإنسان.

 

وضع الجزري في كتابه “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل” خلاصة عمل دؤوب استمر أكثر من 25 عاماً، وعرضه بطريقة مفصلة تسمح لمن بعده أن يستفيدوا من علمه، حيث وضع بالتفصيل طريقة صنع كل آلة من الآلات التي اخترعها، وقد طبع الكتاب في القرن السادس عشر في مطبعة عائلة مديشي، التي كانت تحكم فلورنسا بإيطاليا.

 

وكانت هذه العائلة راعية المخترع والفنان الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي، الذي درس كتاب الجزري، وترجم الكتاب الذي أبهر الغرب إلى لغات عدة، ليصبح نواة الثورة الصناعية في أوروبا، وهو يعرض في متاحف عديدة حول العالم مثل تركيا وفرنسا وبريطانيا، والولايات المتحدة.

 

ويرى مؤرخون أن الجزري حلقة وصل مهمة في تاريخ تطوّر صناعة الآلات، واختراع المحرك، فقد درس أفكار مَنْ سبقوه، وأضاف لها إضافات جعلت تلك الأفكار مهيأة لصناعة الآلات والمحركات التي نعرفها اليوم، ولذلك فهو يُعدّ من أبرز المهندسين في التاريخ إسهاماً في صناعة الآلات وتطوّر الحضارة الإنسانية.

 

ويشير د. فؤاد السيد، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة، إلى أن الجزري واحد من عمالقة الهندسة في التاريخ، إذ ساهمت اختراعاته في فتح الباب لظهور كثير من الآلات التي لعبت دوراً محورياً في الثورة الصناعية في أوروبا، والتي أصبحت فيما بعد عماد المدنية الحديثة، موضحاً أن الجزري هو أول مَنْ اخترع آلة ذاتية الحركة، هذا بجانب اكتشافه أن الحركة الدائرية يمكنها أن تولّد قوة دافعة إلى الأمام، واختراع عمود الكامات أساس صناعة المحركات الحديثة.

 

كما كان أول مَنْ استخدم سلسلة معدنية لتدوير عمود الكامات، وهي التقنية نفسها التي تستخدم في محركات السيارات، ما يجعل له دوراً بارزاً فيما وصلت إليه الحضارة الغربية من تقدّم جعل الأوروبيين يضعون كتابه “الحيل” في متاحف أوروبا تقديراً له ولإسهاماته العلمية. 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى