الجندي البريطاني سحرته أفغانستان في «الإضاءات»

الجسرة الثقافية الالكترونية
*مودي البيطار
المصدر: الحياة
ينتقل أندرو أوهاغان ببراعة بين صخب الحرب في أفغانستان وسكينة البحث عن الذاكرة في دار للمسنّين، في روايته الخامسة الصادرة مطلع السنة عن فيبر وفيبر، بريطانيا. يقابل سينمائية المعارك وحيويّة الحوار في «الإضاءات»، هدوء العمر الثالث واقتراب العقل من الرحيل الى عتمته، في لغة رهيفة يشفّ فيها التفاعل الحسّاس بين الحياة الداخلية ومحيطها. أندرو أوهاغان الإرلندي الأصل، الاسكتلندي المولد، الإنكليزي الإقامة، شغف دائماً بقصص الجندي العائد الى الوطن، وزار أفغانستان في 2013 حين كان الجنود البريطانيون في حال تأهّب كاملة. اطلع على أوضاع المستشفيات والمدارس ومخيّمات اللاجئين، وصعقه مقتل امرأة ساعدته هناك بعد أسبوعين على عودته. عزّز بحثه بالمقابلات مع عناصر «الفوج الإرلندي الملكي»، واكتشف التداخل الكبير بين ألعاب الفيديو والقتال الفعلي أرضاً وجواً. قد تحوّل الرواية فيلماً، ويهتمّ الكاتب بالأمانة للحوار الحسّاس، السريع والمجنون، قبل أي شيء آخر.
رُشّح أوهاغان لبوكر في عام 1999 عن «آباؤنا»، والرواية الجديدة عن الحب، فقدانه، الحنين إليه، البحث عن ركيزة وجودية فيه، وعن أوهام البطولة وضياع الساعين إليها. تلتقي الشخصيات في بحثها عن الماضي الضائع أو المستقبل الهارب، وثمة مكافأة أو تعويض عن الخسارة في مسار آن وابنتها وحفيدها. في بداية «الإضاءات»، ترى آن أرنباً على الثلج لأنها تحنّ، يقول الكاتب، الى حفيدها لوك المقاتل في هلماند. آن في الثانية والثمانين «بدت كأنها تحاول الخروج من نفسها قبل فوات الأوان. بدا أن القارب الذي أبحرت فيه طوال حياتها ينجرف، وكانت تلك البداية. تدحرجت في عتمة كان القديم فيها جديداً فجأة، وحين عادت الى السطح كانت مادة حياتها تظهر حولها».
بدأ الخرَف حين ذهب لوك الى القتال في أفغانستان، وإذ نظر الشاب الى الجبال شعر ببعده من موارده القديمة، من آن كوِيرك وإيمانها الغامض بغلبة الحقيقة والصمت في النهاية. صحبته في طفولته الى المعارض وحدّثته عن الكتب، وحفظت السمك- النجم والأصداف التي جمعها في الخزانة، فقدّمت له العالم كما يمكن أن يكون لا كما كان. يكتشف مع والدته وزملائها في دار التقاعد، أنها كانت مصوّرة مرموقة، ويتذكّر تعريفها للون: إنه ضوء يحترق، ويغيّر الأشياء حين يقع عليها. كانت هي علاقته الخاصة لا والدته أليس، وحين عاد من أفغانستان صحبها الى بلاكبول التي هجست بها وبأضوائها مذ التقت حبّها هناك. علّمها هاري بليك التصوير الوثائقي، وحضّها على الخروج من الاستديو لتصوير الحدث، الشارع، الناس، وكان «البيتلز» الذين نسيت اسم فرقتهم وتذكّرت تسريحة شعرهم المبتكرة، بين من التقطت صورهم. يتأكّد من أهميتها حين تطلب غاليري كندية منها إقامة معرض استرجاعي لها، وتُعجب جارتها مورين بصورة التقطتها لمجلى مليء بالصحون، وأضفت عليها جمالاً كأن الحياة، بأشيائها العادية، مجرّد صور. في مقدّمة الكتاب، يذكر أوهاغان مصورة كندية اسكتلندية تدعى مرغريت ووتكنز، صوّرت المجلى والشارع، وأعيد اليها الاعتبار بعد وفاتها.
تقول آن إن تاريخها بدأ مع هاري، الذي كان بطلاً حربياً طار فوق ألمانيا لالتقاط الصور. كانت تنتقل من بيتها في غلاسغو، اسكتلندا، لتلتقيه في بلاكبول، إنكلترا، لكنه لم يوافِها دائماً. «أدين له بكل شيء» قالت، لكنه هجرها حين حملت بأليس فتركتها مع جارتها وسافرت الى كندا وأميركا. تؤمن أليس بأن والدتها رأت دائماً أنها تفتقر الى شيء ما، وتريد الآن، وهي في الخمسين، أن تغيّر رأيها. لكنها توافق أمها الرأي في الواقع، وتعرف أنها شديدة الواقعية الى درجة التفاهة، في حين امتلكت آن غموضاً وخيالاً جميلاً. على أنها فشلت أماً، واعتادت الإبنة على علاقاتها التي أبقتها بعيداً. أليس لم تعرف والدها الذي بدا أخرق في المرات القليلة التي التقته. حين أعطاها دمية أحسّت أنها كانت لطفلة أخرى، وستكتشف لاحقاً أنه كذب وأخفى أسراراً عدة. كذب آن شكّل حياتها، تقول لابنها العائد من الحرب، وربما تزوجت جندياً فقط لكي تتساوى مع والدتها التي أحبّت بطل حرب. لكن شون قتل في السادسة والعشرين في إرلندا الشمالية، وعيّرتها والدتها لأنها تزوجت ثانية كأنه كان عليها أن تبقى على حب رجل واحد مثلها.
بعد هجوم أيلول (سبتمبر) 2001، يترك لوك الجامعة حيث درس الأدب الإنكليزي ليلتحق بالجيش. يلاحظ الجميع حبه للمطالعة واختلافه عن الآخرين، لكنهم يعتقدون أنه بطل بسبب والده. قائده المقدّم سكاليون، حارب في سيراليون وكوسوفو، لكنه أحب أفغانستان أكثر من وطنه، وآمن بمحو الجهل بقوة الرصاص. ظنّ الجنود الذين كان معظمهم في أوائل العشرين، أنهم يعرفون القتال من ألعاب الفيديو. يقول فلانيغان إن «البلاي ستيشن» تعلّم قيادة الدبابة، وإن الشركة المصنّعة لتشالنجر غيّرت لوح القيادة لكي يماثل كونسول ألعاب الفيديو. تخوض الفصيلة معركة وهي تحت تأثير المخدّرات التي صادرتها من مهاجمين أفغان. ويطلب القائد سكاليون من الضابط الأفغاني المرافق رشيد، التقاط العلكة التي بصقها، فيمضغها وهو يقول: «الغبار. أحب طعم أرضي».
في شجار مع لوك يقول سكاليون:»كلنا مجانين. تعتقد أن ذلك القتال كله جعلني أكثر حكمة؟ أكثر شجاعة؟ هذه هي العبرة يا أخ، إنه يمزّقك شيئاً فشيئاً. تنقص كل يوم (…) حياة أقل. قضية أقل. أخلاق أقل. إيمان أقل. قدرة على الحكم أقل. طاقة أقل. أمل أقل. أقل وحسب». أراد الشاب أن يحمي العالم حين التحق بالجيش، وهذا ما جعلهما صديقين، إذاً ماذا حدث لذلك كله؟ يعرف أن الأفكار لا تجعله جندياً أفضل، ويفقد والجنود ثقتهم بسكاليون، رمز الأب. يقبل الأخير دعوة الى عرس أثناء نقل محرّك الى كاجاكي لتوفير الكهرباء في المنطقة، وتقع الفصيلة في شرك. يقتل رشيد مارك ويترك البريطانيون عدداً من شبان القرية كومة من القتلى.
يفكر لوك أنه لا يختلف كثيراً عن سكاليون. كلاهما يحارب وهو مقتنع بأنه رجل صالح، ما يجعله شبيهاً بالسياسيين الذين يدفعون ثمن أحذيتهم ويملون عليهم خطابهم. يستند أوهاغان في رسم المعركة السريعة الصاخبة، الى معركة دارت فعلاً في المنطقة نفسها في أوائل 2007 حين أغارت الطائرات الأميركية على قرى تحتفل بالأعراس، وأسقطت قتلى مدنيين. يترك لوك الجيش، ويعود الى اسكتلندا. يجرّد فعله من البطولة حين يقول لوالدته إنه لم يقاتل من أجل بلاده، بل من أجل رفاقه. «أحب وطني لتلاله واختراعاته، لا لشعوره بالجرح أو حلمه العاطفي أن لا أحد هناك مثلنا». تنظر أليس الى وجه ابن التاسعة والعشرين المتعب الوسيم، وتدرك أنها تراه حين سيصبح أكبر سناً.
يتعاطف أوهاغان مع شخصياته، بمن فيها النساء، ويخلو نصّه الرشيق السلس من السخرية واللؤم. تلتبس أمومة مورين التي تُعنى بجارتها آن، وتُعجب بجلدها وتنانيرها المصنوعة من أفضل الأقمشة. تحب أولادها الثلاثة، لكنها تنفر من العطاء بلا حساب الذي تمليه الأمومة، مثل الاستضافة والطبخ. أعطت أولادها أفضل سنوات عمرها، لكن ذلك لا يمنع نسيان ابنتها إرسال بطاقة في ذكرى ميلادها، أو تكاسلهم جميعاً عن الاتصال بها أكثر ما يفعلون. تعترف بأن على المرء الغفران لأسرته إذا أراد علاقة طيبة معها، لكنها ربطت ذلك بعطلات في الخارج وحفلات عشاء كبيرة قرب المسبح تسألها فيها النساء رأيها عن أمور عدة. دوروثي، نزيلة أخرى، تحب الحرية التي توفرها الدار، وتقارنها بالحصار الذي تشعر به وهي مع عائلتها.