الحداثة التقنية قفص مأهول بروّاد بلا مشاعر

موسى أبو ناضر

عندما يحدّد علماء الاجتماع كلمة مجتمع، يعنون بها مجموعة من الناس يعيشون في حيّز معيّن، ويخضعون لنظام واحد من السلطة السياسية، وهم على وعي بأن لهم هوية تميّزهم من المجتمعات الأخرى المحيطة بهم. وعندما يتحّدث هؤلاء عن «المجتمع الشبكي» الذي هو نتيجة ثورة المعلومات، يعنون به ذلك المجتمع الذي تمّ التحوّل فيه من مجتمع صناعي الى مجتمع تكون المعلومات فيه أكثر اتساعاً وتنوّعاً، وأكثر سيطرة على سائر القطاعات الإنتاجية. مجتمع ينشغل معظم أفراده بإنتاج المعلومات وجمعها وتخزينها. مجتمع تتاح فيه الاتصالات العالمية، وتنتج فيه المعلومات بكميات ضخمة، وتتنوّع على نحو متزايد، وتصبح لها قوة تأثير في الاقتصاد والاجتماع والسياسة.
في كتابه «المجتمع الشبكي» الذي نقله إلى العربية أنور الجمعاوي (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، يحاول الباحث الكندي دارن بارني أن يشرح ما فعلته الثورة الرقمية، وما ولّدته من آثار في المجتمعات الحديثة، سواء بتجديدها، أو بتعزيز الأنساق والعلاقات القائمة وتوسيعها.
ترتبط أطروحة «المجتمع الشبكي» على مايقول صاحب الكتاب بكوكبة من النظريات والتحليلات التي نشأت في ثمانينات القرن العشرين، وهي تمثّل جهداً أكاديمياً لإدراك الروح المميّزة لكل ما يلي تحقيق المشروع الحديث في الغرب. ففي العالم الغربي كان عصر الحداثة من بين أشياء أخرى عصراً للتقانة التصنيعية وللانقسمات الطبقية، والمجتمعات الجماهيرية، والأسواق، إضافة الى الصراع الإيديولوجي، وتنظيم السلطة السياسية على مستوى الرقعة الترابية للدولة القومية ذات السيادة، وتقرير إذا كانت هذه الحقبة من الزمن قد انحسرت في نهاية القرن العشرين، أم تمّ تخطّيها.
تقوم أطروحة الباحث الكندي في توصيفه روح القرن العشرين على أربع ركائز. أولها النزعة الصناعية التي نضجت في القرن الثامن عشر، وبلغت ذروتها في القرن العشرين. نزعة امتازت بنشوء المناجم والمصانع، والمدن الحضرية، إضافة الى الانقسمات الطبقية والأسواق الاستهلاكية الضخمة، كما امتازت بحضور طبقة عاملة تحوّلت من فلاحين ريفيين إلى بروليتاريا مدينيية. ومبدأ النزعة الصناعية باعتبارها نموذجاً اقتصادياً، هو مبدأ بسيط يقوم على استغلال اليد العاملة لتحويل المواد الأوليّة، إلى منتجات يمكن توزيعها واستهلاكها على نحو ربحي، باعتبارها سلعاً تسويقية في النموذج الرأسمالي.
والمجتمع ما بعد الصناعي بخلاف المجتمع الصناعي يقوم على الخدمات. ما يهمّ في هذا المجتمع ليست القوة العضلية، والطاقة، بل المعلومات. وقد ترافق هذا التوجّه الجديد نحو الصناعة الخدماتية مع نموّ عدد الموظفين ذوي الياقات البيضاء في الوظائف الخدماتية، في مقابل تدنّي عدد العمال المشتغلين بقوة سواعدهم في التصنيع. وبذلك حلّت طبقة جديدة من التكنوقراطيين والمديرين والمهندسين والعلماء الذين لا قلب لهم ولا روح، على ما يقول عالم الاقتصاد السياسي ماكس فيبر، محلّ أصحاب المصانع والمناجم في أعلى السلم الإجتماعي.
الركيزة الثانية التي تعبّر عن روح القرن العشرين هي «مجتمع المعلومات». ويراد بهذا التعبير العالم الذي يتجه نحو التكتلات المعلوماتية، ونحو شبكات الاتصالات البعيدة المدى، ويقصد بمجتمع المعلومات أيضاً التحوّل من مجتمع صناعي الى مجتمع تكون فيه االمعلومات فاعلة ومسيطرة في كل نواحي الحياة. وفي مجتمع المعلومات يتمّ التشديد على الترابط المتزايد بين أجهزة الحاسوب والاتصالات السلكية واللاسلكية، ترابط سيغيّر على مايقول الباحث الكندي الجهاز العصبي للتنظيم الاجتماعي بأكمله، ويفتح آفاقاً جديدة، ويحوّل نمط الثقافة، ويؤثر في التوازن الاقتصادي، ويعدّل موازين القوى، ويزيد الأخطار التي تتعرض لها السيادة القومية.
الركيزة الثالثة من ركائز القرن العشرين هي ما يطلق عليه «ما بعد الفوردية» نسبة إلى الأميركي هنري فورد. قوام هذه الركيزة مجموعة من السمات هي الإنتاج الضخم، إنتاج سلع رفيعة المواصفات عبر عملية صارمة ومجزّأة للغاية، يقتصر فيها الدور البشري على التنفيذ المتكرّر والروتيني لجزء بسيط من العملية الإنتاجية. والنظام الفوردي في الإنتاج لا يقتصر على تصنيع السلع، بل يولي اهتماماً خاصاً لتوليد الشهية، والإقبال على منتجاته. لذلك لم يكتف بالإدارة العلمية لسير العمل، في عملية الإنتاج الضخم، وإنما عمل على إشعال الرغبة في الشراء من خلال البث الإذاعي والتلفزيوني.
خطاب «مابعد الحداثة» هو الركيزة الرابعة المعبّرة عن روح القرن العشرين، وهو خطاب ينقل مواقف المثقفين اليساريين في فرنسا على غرار ميشال فوكو، وجاك دريدا، وجان فرنسوا ليوتار، وجيل دولوز الذين اعتمدوا مقولة هوبز التي تنصّ على أن جوهر الفكر السياسي الحديث، يعتبر الحقيقة والزيف مجرّد تسميتين لا شيئين في الطبيعة ، وأن القوة لا العدالة هي مركز اهتمام الحياة السياسية. وكما اعتمد هؤلاء المثقفون مقولة هوبز استعانوا برأي نيتشيه الذي يقول إن المجتمع الغربي بلغ مرحلة بات فيها «الخير والشر كما الحقيقة جملة من النتاجات التاريخية المتصلة باشتغال إرادة القوة لدى بني البشر.
الركيزة الأخيرة في توصيف روح القرن العشرين، ترتبط بفكرة العولمة التي شاعت في تسعينات القرن العشرين، ومفادها بأن الدولة القومية تواجه تحدياً في قدرتها على تنظيم العناصر الأساسية للحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الحديثة واحتوائها. مصدر هذا التحدي النشاط الاقتصادي الذي كان محتوى داخل الحدود الوطنية نسبياً وأصبح يعامل الآن وكأنه في حلّ من الحدود، ثم السلطة السياسية للدولة التي كانت يوماً ما محدودة ضمن حدود وطنية جغرافية، وتجد نفسها الآن في مواجهة مع الأنظمة الدولية العابرة للحدود الوطنية، وأخيراً أشكال التضامن الاجتماعية التي كانت تنبع من المعايير القومية، وصارت اليوم تتبع المعايير العالمية.
تنضوي الركائز الأربع الآنفة الذكر تحت اسم «المجتمع الشبكي» وهي تسمية تعبّر عن المحاولات الحديثة الرامية لفهم وتوصيف مجموعة من القوى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المترابطة التي شهدناها في نهاية القرن العشرين، والتي تعبّر عن الروح المميزة لكل مايلي تحقيق المشروع الحديث في الغرب، أو استنفاده.
إن الغرب باعتماده التقانة يتطلّع الى التحكّم في شكل نهائي بالطبيعة وما عليها، والإنسان وماحواليه، لذلك لافائدة من الممانعة تارة باسم العنصرية، وتارة باسم العادات الاجتماعية، وتارة باسم الدين. ولابد ّمن فتح الأبواب على مصاريعها للإفادة من تقدّمه التقني، وتفوّقه العلمي.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى