الحرب الإسبانية بمزاج روائي جزائري

الجسرة الثقافية الالكترونية

*ابراهيم صحراوي

المصدر: الحياة

 

تنضم رواية «سيييرا دي مويرتي» أو «جبال الموت» للجزائري عبد الوهاب عيساوي إلى مدوّنة الروايات التي تتخّذ من الحرب الأهلية الإسبانية وآثارها في النِّصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين موضوعاً لها، على غرار «لمن تقرع الأجراس» للأميركي إرنست هيمنغواي، أو رواية «لا بكاء» للفرنسية- الإسبانية ليدي سالفاير، الحائزة جائزة غونكور في دورتها الأخيرة (2014). غير أنّ أحداث رواية العيساوي تتميّز عن أحداث الروايات السابقة زماناً ومكاناً. هي تقتفي أثر من آثار الحرب وليست الحرب نفسها، بينما تدور أحداثها بعد انتهائها بسنتين تقريباً، وفي الجزائر.

تصوِّر الرواية، من خلال ضمير المتكلِّم، وفي ما يشبه اليوميات، مجريات الحياة في معتقل «عين أسرار» في مدينة «الجلفة» الجزائرية، على مشارف الصّحراء (300 كلم جنوب العاصمة)، الذي أنشأته سلطات الاحتلال الفرنسي- مطلع أربعينات القرن العشرين- لاستقبال أسرى ومعتقلي الحرب الأهلية الإسبانية من الجمهوريين واليساريين والشيوعيين والفوضويين ومن إليهم من جنسيات أوروبية مختلفة، المنهزمين أمام يمينيي الجنرال فرانكو.

يروي مانويل، الشخصية السّاردة، وهو معتقل إسباني مثقف كان يعمل مُدرِّساً قبل الحرب، يومياته الشّاقة والصّعبة ومعاناته مع الآخرين، ولا سيما مع صديقين مُقرَّبين منه هما: بابلو، إسباني آخر التقاه في برشلونة، كان رفيق سلاحٍ أيام الحرب في جبل الموت، حادّ الطِّباع يتحلّى بمقدار من الشجاعة مع شيء من التهوّر. هو أميّ، يعمل مزارعاً قبل الحرب. والآخر هو كورسيكي، يهودي بولوني. تعرَّف إليه في معتقل سابق في فرنسا. هادئ الطباع، حكيم، متديِّن ذو ثقافة توراتية واضحة لا تفتأ تتواتر على طول الرواية. في نقله يومياته وفي تصويره لحياته وحياة الآخرين في معتقل «عين أسرار»، وبدرجة أقلّ في معتقل سابق في فرنسا «فارني دارياج» وعذابات الرِّحلة في ما بينهما عبر القطار والسفينة، يُبرِزُ السارد تحكُّمَ المكان في هذه اليوميات وتوجيهَه لها، ذلك أن المعتقلَ يفقد ما تبقى من آدميتِه وإنسانتِه بكلِّ صِفاتها ومُقوِّماتها بعدما يكون قد فقد جٌلَّها في الحرب، بدءاً من طريقة الانتقال، أو بالأحرى النقل أو التحويل، من معتقل إلى آخر، ما يجعله ينسى معنى الحياةَ البشرية أو يوشك على نسيانها. يبرز الراوي أيضاً الصِّيغ الجديدة للعلاقات التي تقوم بين الأفراد. علاقات تتميّز بالتوجس والاحتقار المتبادلين بين المعتقلين وسجّانيهم عبر وحشية الحراّس وقائدهم الضابط غرافال ومدير المعتقل كادوش، ومع ذلك لا تخلو هذه العلاقة من لمسات إنسانية تتضّح من حين إلى آخر عبر سلوكيات الحرّاس العرب وقائدهم الصبائحي أحمد.

في المعتقل، تنقطع الصِّلة بالوطن، فيصبح العالم الخارجي ذكرى وحلماً في الوقت عينه. ذكرى تؤثِّثُ الواقعَ البائس، وحلماً يساعدُ على تحمُّله والصّبر على أوجاعه. هم يتعلّقون من أجله بأشياء بسيطة لمواصلة الحياة، تشتعل الذِّكرى ويتّقد الحلم عند وصول الرسائل، وهي صلتهم الوحيدة بالعالَم الذي فقدوه وقُطِعوا عنه. ترِدُ الرسائل إلى المعتقلين من ذويهم وأصدقائهم. مانويل يتلقّى رسائل من زوجته باتريسيا التي خلّفها وراءه في فرنسا، أمّا «بابلو» فيتلقّى رسائل من صديقة فرنسية سمعت عنه من صديق مشترك فوقعت في حبِّه مع أنهما لم يلتقيا أبداً، ليتجسّد بذلك معنى البيت الشعري الشهير لبشار بن بُرد: «يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة/ والأذن تعشق قبل العين أحيانا». رسائل يقرأها له مانويل (بعد ترجمتها إلى الإسبانية) ويتولّى الردّ عليها (بالفرنسية) أيضاً، وذلك لأميته كما أسلفنا.

هذا الحبُّ يساعده على «الهرب» من المعتقل، لكنّ قيود مانويل وكورسكي تخفُّ قليلاً نظراً إلى مواقعهما الجديدة: العيادة بالنسبة إلى مانويل والمطبخ لكورسكي، ثم يعملان ما بعد مُدرِّسين لابن مدير المعتقل. الأمر الذي أتاح لهما التنقل بحرية داخل المدينة والتجوال فيها والتعرُّف إلى بعض ساكنيها، فضلاً عن الإعفاء من الأشغال الشاقّة في الوُرش وتنظيف الطرقات، إضافة إلى امتيازات أخرى لم تُتَحْ لبقية المعتقلين.

إذاً تغيُّرُ وضع مانويل في المعتقل يجرُّ تغييرات أخرى كحرية الخروج منه إلى المدينة في أوقات معيّنة مدفوعاً برغبة في الاكتشاف وبحث عن إجابات لأسئلة وهواجس غامضة وشغف بمعرفة أسرار الأمكنة. ومن ثمّ تتطور قيام الألفة بينه وبين الصبائحي أحمد لتتحوّل إلى نوع من الصّداقة التي تتجاوز علاقة السجّان- أو بالأحرى حارس السِّجن- بسجينه. ومن ثمّ يتعرَّف إلى شخصية أخرى هي: السّلمي. إنها شخصية حكيمة خبرت الحياة وتنبّهت إلى بعض خباياها وعرفت بعضَ أسرارها، يكون لها دور كبير في تغيُّر أشياء كثيرة في فكره ورؤيته ونظرته إلى الحياة. من ذلك تغيُّر موقفه الرافض للإنجاب لاكتشافه أنّ الموتَ لا ينتُجُ من الحرب فقط، فمن لم يمُتْ بها مات بغيرها، مكتشفاً بهذا الحِكمة العربية «من لم يمُتْ بالسيف مات بغيره». هذا إضافة إلى انبهاره بروحانية صديقه البولوني ثمّ الصبائحي والسّلمي وبداية اقترابه من فكرة الله الذي لم يكن يرغب في التفكير فيه بالطريقة التي يريدها رجال الدين الكاثوليك، خصوصاً أنّه كان يعتقد أنّه تخلّى عنه وعن رفاقه وانحاز إلى الجهة الأخرى، لكنّه عدّل الاتجاه أخيراً عندما وقف بينهم وبين الرّصاص الذي كان سينطلق صوْب المُعتقلين الإسبان بأمر الضابط غرافال في ساحة المعتقل لولا أنّ الصبائحي أحمد الذي وصل في الوقت المناسب أصدر أمراً مُضادّاً اتبعه بقوله: «لسنا نحن الذين نرفع السِّلاح في وجه الأسير يا سيِّد غرافال».

تنتهي الروايةُ بانتهاء مانويل من كتابة قصّته في العيادة على الآلة الكاتبة ووصول عريضة بعد مساعٍ من القنصل الفرنسي في الدار البيضاء تطلب إطلاق سراحه وموافقة مدير المعتقل على ذلك ثم أمْرُه إياه بمغادرة المعتقل بسرعة – بعدما كان قد غادره قبل ذلك بفترة صديقُه البولوني- وسفره إلى الجزائر العاصمة تمهيداً لانتقاله إلى الدّار البيضاء وعبوره الأطلنطي إلى منفى آخر، إلى المكسيك باحثاً هناك عن وطن بديل لإسبانيا. تعْبُرُ الروايةَ تفاصيل عن أماكن كبرشلونة وسييرا في إسبانيا وفارني دارياج ومرسيليا ومدن أخرى في فرنسا والجزائر العاصمة والجلفة في الجزائر.

وعن شخوص كالمعتقلين والضباط والحراس والأصدقاء المقربين وشخصيات جزائرية كالسّلمي، فتشيع أجواء غرائبية خصوصاً ما تعلَّق منها بأواخر عهد الجزائر الكولونيالية وعن أحداث الحرب الأهلية الإسبانية نفسها وبعض عوامل فشل الجمهوريين وانهزامهم أمام قوات فرانكو. تحمل الرواية أيضاً قدْراً كبيراً من الفلسفة والتأمُّل والوصف والتحليل واللاهوت والأحكام القيمية، حتى يمكننا القولُ أنّها رواية أفكار ومواقف أكثر منها رواية أحداث.

تعتبر شخصيات الرواية الأساسية (مانويل وبابلو وكورسكي والضابط غرافال ومدير المعتقل كابوش) حقيقية واقعية، إلاّ أنّ خيال الكاتب تصرّف فيها بما تستدعيه تقنيات القصّ وأدبية النصّ فأدمج خطوطاً وتقاسيم وعدّل أخرى أو كنّى عنها، وتغاضى عن جزئيات وأضاف أخرى. فمانويل ليس سوى «ماكس أوب» الكاتب والديبلوماسي الإسباني الفرنسي المكسيكي الألماني على ما يبدو، أمّا بابلو فهو «أوليفان أنطونيو أتاريس» الذي أشهرته رسائل الفيلسوفة الفرنسية سيمون وايل (ماريا في الرواية) التي أحبّته من دون أن تراه. أما كورسكي فيبدو أنّه الكاتب البولوني بول زولبرغ، بينما بقي اسما المدير والضابط من دون تغيير.

يبدو الروائي، وقد قرأ كثيراً من المصادر والمراجع، سواء ما تعلَّق منها بالمعتقل أم بالشخصيات المذكورة أو حتى بالكتب الدينية اليهودية المسيحية، فأنتج نصّاً أدبياً رفيعاً واستطاع أن يقدّم في نصِّه هذا (وهو الشرقي) راوٍ تقمَّص شخصية (غربية) بثقافتها ونظرتها المختلفة عن نظرته للأمور، فلم يتعسَّف ويُسقِط مواقفه على هذه الشخصية بما يتماشى وانتماءَه. بل، لم يتدخَّلْ في تعاطفها مع اليهودي ومِلَّتِه وقومِه وهو ما يتماشى تماماً والموقف الغربي. وكانت هذه الشخصية (الراوي) مِرآةً عكست له جانباً من صورته لدى الآخر، من هنا يمكننا الزّعمُ بأنّ هذه الرواية حوار حضاري أدبي من كاتب منحدر من المدينة التي جرتْ بها الأحداث (الجلفة)، حوارٌ سيكون ذا تأثير أوسع لو قُيِّد للرواية أنْ تُترجم إلى الفرنسية و/أو الإسبانية. لغة الرواية جميلة. خلت من الأخطاء إلا في ما ندر وأسلوبها أنيق وهي ميزة نفتقدها أحياناً كثيرة في النصوص الجزائرية في الفترة الأخيرة. في أحد المشاهد الأخيرة من الرواية يُرى الطبيبُ في العيادة وهو مستغرِقُ لأكثر من ساعة في قراءة خاتمة القصّة التي كتبها مانويل (هي هذه في الحقيقة) مأخوذ بتفاصيلها وهو ما سيحصل من دون شكٍّ مع كثيرٍ ممّن سيقرأون الرواية في الواقع، ذلك أنّها نصٌّ جميل ومتميِّز شكلاً ومضموناً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى