الحرف العربي يمنح التشكيل مساحات جمالية جديدة

الجسرة الثقافية الالكترونية-الخليج-
يثير موضوع الخط واستخدامه في اللوحة التشكيلية الكثير من الأسئلة التي تتناول الأبعاد الجمالية للخط من ناحيتي المضمون والشكل، فهذا الفن الذي ارتبط بمنطق خاص يستمد تألقه من الأبعاد الروحية التي يلخصها الفهم الإسلامي لجمال بات اليوم على تماس مع الكثير من القيم العصرية التي تفتح الباب على مصراعيه أمام استخدامات الخط في اللوحة الحروفية ومن ثم اللوحة التشكيلية الحديثة، أضف إلى ذلك استخدام الخط في المنحوتات والأعمال المعاصرة التي أمست توظف الخط بوصفه ثيمة مكملة للعناصر المختلفة، وليس مركزاً تدور من حوله كل التصورات والقيم التي يود الفنان أن يعبر عنها ويطرحها بحسب قناعاته وميله لفهم الفنون في ضوء ثقافته في عالم مضطرب تتجاذبه كثير من الأفكار والسياسات والرؤى .
يرى د . إياد الحسيني أن مفهوم الأصالة في الفكر العربي يتضح من خلال المحافظة على تلك التقاليد المتجذرة في عمق السلوك والفكر والقيم مما يجعلها عاملاً موروثاً ومورثاً في آن واحد، أي أنه ممتد من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر، وهذا ما يؤكده حفاظ الخط العربي على تقاليده الفنية في قواعده وأصوله وجمالياته، وكذلك حرص الخطاطين على قواعده من خلال إتقانه وتعليمه للأجيال الجديدة .
في الزمن الحالي بات الخط (سواء العربي أو غيره) موظفاً في كثير من التجارب الفنية، التي تقترح قيماً، تتجاوز اللوحة المسندية نحو استخدامات تتعامل مع الحرف بوصفه حيزاً وفكرة وعنصراً قابلاً لتشكيله وفق متطلبات جديدة، لا تخاطب فكراً ثابتاً ولا قيمة جمالية واحدة، وهو ما بدأ يتماس مع الفنون المعاصرة من دون اشتراطات مسبقة .
الفنانة النرويجية جوليا فانس في إحدى مشاركاتها الخطية في الإمارات قدمت كلمة “تو” الإنجليزية على شكل منحوتة من الرخام الأبيض، اختزلت من خلالها فكرتها التي تلعب على سطح الحرف والكتلة، منصاعة للفن وحده، الذي يعير اهتماماً بالغاً للشكل، فينقله من مسطح نحتي إلى مسطح آخر في نطاق العمل الواحد، كأنه شكل يغادر منطق الصمت إلى كلام ما .
هذا المنطق بات واضحاً في تعاملات الفنان المعاصر الذي ذهب إلى حرف ولغة بلده فأصبحنا أمام تجارب تنقل الحرف الصيني والإنجليزي واللاتيني في أشكال وتجارب ومدارس مختلفة، تتعامل مع الحرف بوصفه عنصراً جمالياً بحتاً، وليس خاضعاً لمنظور فكري، أو قيمي أو سلوكي مجرد، كما هو شأن الخط العربي الذي كان يسعى لحفاظ على منظومة شكلية وبصرية واحدة ولا يمكن تجاوزها .
هذا الفهم الجديد لاستخدام الخط في التجربة التشكيلية المعاصرة، يجد المتلقي صعوبة كبيرة في تأويله أو فهمه أو تفسيره، كما أن نظام هذه اللوحة لا يستمد كامل عناصره من البيئة والمحيط الذي يدركه الإنسان ويعيش فيه، وإنما من ذلك الاضطراب الداخلي الذي يقع الفنان الغربي تحت وطأته وتأثيراته ما يجعله عالماً داخلياً يصعب حل رموزه أحيانا، خاصة عندما يعاني فوضى، فينعكس ذلك في الخطوط والألوان والحركة وكافة العلاقات الناتجة عنها .
في تجربة اللوحة الخطية، يمكن الإشارة إلى الخط الصيني الذي يعبر عن حضارة شرقية قديمة رفعت الخط إلى مرتبة الفنون العالية، فهو خط قديم كالخط العربي، وشارك في المعارض التشكيلية والعالمية بوصفه نظاماً جمالياً يبرز الخط مقروناً بالموسيقى والشعر وينطبق عليه ما ينطبق من قيم الجمال المعاصرة الشيء الكثير، من حيث الإتقان وتعدد زوايا الرؤية الجمالية التي تتيح دراسته في ضوء الرمز والدال والمدلول وتخطي نظام البعد الواحد .
كانت لتجربة استخدام الخط في التشكيل ما يعبر عن كثير من الأفكار التي تشي بالغموض، كما هو عند البلجيكي فريد ايردكنز الذي قدم في مشاركته في ملتقى الشارقة للخط في دورته السادسة تجربة نقل صورة تعود لعشرات القرون، تجسد (فتاة وظلها)، الفتاة تنظر إلى زوجها الذاهب إلى الحرب، تحاول أن تحتفظ بظله، الظل بالنسبة لايردكنز كما هو حال أعماله النحتية والتركيبية تشي بالغموض ولكنها في نهاية المطاف تنزلق أو تتحول إلى أفكار أخرى قابلة للدلالة وقراءة الكثير من القضايا المعاصرة، ومنها ذاكرة الحرب والدمار والعنف .
في السياق ذاته كانت تجربة الكولومبية ماريام لوندنو التي قدمت الخط من خلال اهتمامها بفن الصورة أو تشكيل الصورة فقدمت العديد من الأوراق على هيئة حروف تنتمي للغة الإسبانية، كانت الورقة بالنسبة للفنانة هي الصورة التي تسرد الحكاية .
مثل هذه الإزاحات في تشكيل الحرف، والتي تحاكي تحولات الفرد المعاصر تتماهى مع تجربة التشكيل بوصفه قابلاً للتعبير عن صخب الحياة وتحولاتها، ثمة أبعاد ومرموزات ودلالات تتعامل مع الخط بوصفه وسيطاً ومكوناً رئيسياً في نقل الأفكار واستلهام الحكايا القديمة والجديدة، وهو ما ينسجم مع عناصر اللوحة الغربية، التي تنطوي على صعوبة ما في تأويلها أو فهمها أو تفسيرها .