«الخروج غرباً» لمحسن حامد.. فراراً بالحياة من مدينة على شفا حرب

عبد الوهاب ابو زيد

رواية محسن حامد الجديدة «الخروج غرباً Exit West» هي الرواية الثالثة التي أقرؤها له من بين أربع روايات أصدرها حتى الآن، بعد روايتيه «الأصولي المتردد» الصادرة عام 2007، و«كيف تصبح فاحش الثراء في آسيا الصاعدة» الصادرة عام 2013، وهو بهذه الرواية يرسخ مكانته بشكل أكبر ككاتب روائي مهم في اللغة الإنكليزية، على رغم أنها ليست لغته الأم، خصوصاً مع دخولها القائمة القصيرة للروايات المرشحة للفوز بجائزة البوكر العالمية لهذا العام.
نتعرف في صفحات الرواية الأولى وبصوت الراوي العليم على كلٍّ من سعيد وناديا اللذين يلتقيان في إحدى الدورات المتخصصة في العلامات التجارية التابعة للشركات والتسويق، لتندلع بينهما شرارة الحب التي ما تلبث أن تتحول إلى حريق يكبر شيئاً فشيئاً حتى لا يعود لهما من الأمر من شيء، ولكن الرواية ليست رواية حب تقليدية، وإن كانت صفحاتها الأولى قد تشي بذلك، بل إن الثيمة الأساس لها هي الهجرة واللجوء والارتحال ما بين البلدان فراراً بالحياة من مدينة على شفا حرب أهلية شاملة، وطلباً للعيش الآمن الكريم في مدن أخرى بعيدة في الغرب، تحديداً حيث يسود الاستقرار ويعم السلام وتخفت أصوات النزاعات المسلحة.
ونشير هنا إلى أن حامد يتحاشى أن يسمي هذه المدينة المنكوبة بالصراع ليمنحها، ربما بعداً رمزياً وتمثيلياً عن كل مدن الشرق التي مرت وتمر بظروف مماثلة، وما أكثرها! أما كيف ينتقل الراغبون في الهجرة والرحيل عن أوطانهم فيحدث، لا كما في الواقع، وبشكل يستدعي أطياف الواقعية السحرية، عبر الانتقال من خلال أبواب عادية تتحول إلى وسيلة انتقال وسفر من مكان إلى مكان، من دون المرور أو الخضوع لتجربة الانتقال الفعلي المريرة التي يمر بها المهاجرون في الواقع.
يأخذ السارد بيدنا لنتابع تنقل سعيد وناديا من ميكونوس إلى لندن إلى سان فرانسيسكو، ونكون شهوداً على ما تمر به تجربتهما العاطفية والإنسانية من تحولات وتغيرات، وهي تغيرات مهما بدت مؤلمة ومؤثرة إلا أن الواقع بوحشيته وقسوته يظل حافلاً بما هو أكثر قسوة ووحشية منها، فيما يلي ترجمة لصفحات من الكتاب الصادر هذا العام: طرأ تغير على علاقة المرء بالنوافذ في المدينة، فالنافذة هي الحد الذي يُحتمل قدوم الموت منه، فالنوافذ لا تستطيع الصمود في وجه أكثر أنواع الذخيرة، وهناً: فأي موقع داخل إحدى البيوت يطل على الخارج يرجح أن يكون واقعاً في خطوط النار، وإضافة إلى ذلك فإن زجاج النافذة نفسه من الممكن أن يصبح شظية بكل سهولة، متحطماً من أثر انفجار قريب، والجميع قد سمعوا عن شخص ما أو آخر ممن نزفوا حتى الموت بعد أن مزقتهم شظايا الزجاج المتطاير. العديد من النوافذ قد تهشمت بالفعل، وكان من الحكمة نزع ما تبقى منها، ولكنه الشتاء والليالي كانت باردة، وبدون الغاز والكهرباء، وكلاهما أصبحا شحيحين، كانت النوافذ تخفف من حدة البرد، لذا فقد تركها الناس في مكانها، قام سعيد وأسرته بإعادة ترتيب أثاثهم عوضاً عن ذلك، فوضعوا خزائن الكتب الملأى بالكتب قبالة النوافذ في غرف نومهم، بحيث أصبحت النوافذ غير مرئية مع ترك فرجة يتسلل منها الضوء حول الزوايا، كما أمالوا سرير سعيد فوق النوافذ المرتفعة في غرفة الجلوس، مع المرتبة، بشكل قائم، بزاوية ما، بحيث يستقر قدما السرير على النافذة العليا. وكان سعيد ينام على ثلاث سجادات فردت بعضها فوق بعض على الأرض، وكان ذلك ملائماً لظهره كما أخبر والديه، أما ناديا فقد وضعت شريطاً لاصقاً بيجي اللون مما يُستخدم عادة في توضيب صناديق الورق المقوى على الأجزاء الداخلية من نوافذها، وثبتت أكياس النفايات القوية بالمسامير فوقها في إطارات النوافذ. وحين كان يتوفر لها ما يكفي من الكهرباء لشحن بطاريتها الاحتياطية، كانت تأخذ قسطاً من الراحة وتستمع إلى إسطواناتها تحت ضوء مصباح وحيد عارٍ، وكان صوت الموسيقى يخفف شيئاً ما من حدة أصوات القتال المندلع، وبعيد ذلك كانت تنظر إلى نوافذها فترى أنها تشبه إلى حد ما الأعمال الفنية الحديثة السوداء التي لا شكل محدداً لها.
التأثير الذي كان للأبواب على الناس تغير كذلك، فقد بدأت الشائعات تسري حول أبواب تأخذك إلى أماكن أخرى، وغالباً إلى أماكن بعيدة، نائية عن مصيدة الموت التي تُدعى بلاداً هذه، بعض الناس زعموا أنهم يعرفون أناساً عرفوا أناساً مروا عبر مثل تلك الأبواب. الباب المألوف، كما قالوا، يمكن أن يتحول إلى باب خاص، وقد يحدث ذلك من دون سابق تنبيه، لأي باب من الأبواب، معظم الناس ظنوا أن تلك الشائعات محض هراء، وأنها خرافات تراود محدودي التفكير. ولكن معظم الناس صاروا ينظرون إلى أبوابهم بطريقة مختلفة قليلاً على الرغم من ذلك.
ناديا وسعيد، أيضاً، ناقشا هذه الشائعات واستسخفاها.
ولكنها في كل صباح، حين تستيقظ، كانت ناديا تنظر إلى باب شقتها الأمامي، وإلى الأبواب التي تقود إلى حمامها، وخزانتها، وشرفتها. وكل صباح، في غرفته، كان سعيد يفعل الشيء نفسه. كل أبوابهما ظلت أبواباً بسيطة، بمثابة مقابس الكهرباء التي تفتح وتطفأ بين مكانين متلاصقين، فإما أن تكون مفتوحة أو مغلقة، ولكن كل باب من أبوابهما، مع ما بات ملتصقاً به من الاحتمالية غير العقلانية، أصبح حيّاً بشكل جزئي كذلك، وصار شيئاً له قدرة دقيقة على السخرية، السخرية من رغبات أولئك الذين كانوا يرغبون في الذهاب بعيداً، هامساً بصمت من إطار الباب أن مثل تلك الأحلام ما هي إلا أحلام حمقى.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى