‘الخطاب الممنوع’ .. خطاب خارج عن نواميس العامة وعن مؤسسة السلطة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

هيام الفرشيشي

 

“الخطاب الممنوع” مجموعة قصصية جديدة للقاص الناصر التومي. وهي المجموعة الخامسة له، فقد نشر سابقا: “كل شيء يشهق” 1982، الأشكال تفقد هويتها” 1995، “الأقنعة المحنطة”1997، “حكايات من زمن الأسطورة” 1999، و”حدث ذات ليلة” في 2003.

 

وللناصر التومي مدونة روائية تتكون من ست روايات أغلبها متوجة بجوائز مهمة على مستوى وطني. مثل جائزة علي بلهوان عن روايته الأولى “ليالي القمر والرماد” وجائزة تقدير لجنة تحكيم كومار عن روايته “الرسم على الماء”، وجائزة ابن رشيق لاتحاد الكتاب التونسيين عن روايته “الصرير”، وروايات أخرى مثل “النزيف” وهي رواية متطورة فنيا تناولت حقبة نهاية السبعينيات في تونس التي عرفت ما يسمى بالإضراب العام أو الانفجار الاجتماعي، و”رجل الأعاصير” التي ترصد علاقة القصر الرئاسي بالإعلام والفن في تونس فهو الذي يملي القرارات المتعلقة بالثقافة والفن ومن يخرج عن إطاره فهو عدو السلطة وعدو القصر، ورواية عندما “تجوع اليرابيع” التي تكشف الفساد والدنس في واقع الحياة.

 

أبطال قصص “الخطاب الممنوع” كما جاء في توطئة الكتاب بقلم الناصر التومي “متمردون على واقعهم وعلى أوضاعهم، لكنهم مطحونون مقموعون، لا قدرة لهم على تحقيق طموحاتهم في الحرية والعدالة والحياة الكريمة، ورغم كل شيء فلا يستكينون، بل يواصلون مسيرتهم النضالية بثبات”.

 

وفي تقديم أحمد ممو لهذه المجموعة القصصية يضيف، “تتضمن هذه القصص أربع عشرة قصة قصيرة، يقدمها الكاتب على أنها نماذج من إنتاجه القصصي المعبر عن موقفه مما كان يحدث، في فترة اتسمت بالتضييق على حرية التعبير وإسكات كل الأصوات الناقدة للسياسة المنتهجة”.

 

طي هذه المجموعة القصصية مختارات من مجاميع قصصية سابقة نشرت قبل الثورة التونسية، وكانت تنقد الواقع عبر الرمز والحيل الفنية وهي “الأقنعة المحنطة” و”حدث ذات ليلة”، قصص تفضح هذا الواقع الذي تتحكم فيه الأصنام السياسية والثقافية التابعة للسلطة ايضا، لذلك تبدو عناوين القصص بمثابة هتك واضح للمشهد السياسي من “منطق البهلوان”، “عصيان في المملكة البيضاء”، “عندما تزرع القبور”، “الخسوف”، “الخطاب الممنوع”، “حكاية مملكة الإنس والجن”، “منطق الحوت”، “حكاية غيلم”، “حدث ذات ليلة”، “عودة الأصنام”، “تحول”، “الرجل الطيب”، “شطحات في العمق”.

 

ترصد لنا العناوين الشخصيات القصصية من البهلوان إلى الغيلم إلى الأصنام، أما الفضاء المكاني ففي الأرض قبور وفي السماء خسوف، وفي العمق شطحات. والفضاء الزماني خطاب ممنوع وحكاية الانس والجن التي تتكرر على مر الأزمنة، أما التحول فلا يشي بتحول في الزمن بل يخاتل دلالته الى أخرى تدل على التكلس والجمود.

 

وقد استقى القاص الناصر التومي مواضيعه من المجتمع التونسي غذاها بتجاربه وتجارب من عرفهم من أجل نقد المجتمع، وخاصة البطش السياسي، لذلك كانت نهايات القصص قاتمة, فهي تعرض رأيه حول مشاكل الحياة المستعصية وآلام هذا الطريق السياسي الثقافي المستعصي. فمعارضة السلطة لا تتم عبر السياسة فحسب بل عن طريق الافكار والمعرفة وإشراقة الذهن، في حين أن الحكام يفضلون شخصيات تتحلى بالدنس وغياب النقد والتفكير. لذلك تنتهي قصصه بنهايات قاسية، فأغلب الشخصيات تصاب بالجنون المرضي، في قصة منطق البهلوان” أودع الممثل الصامت مستشفى الأمراض العقلية تحت حراسة مشددة. ولما أفاق فجر اليوم التالي كان قد نقد النطق فعلا وإلى الأبد”.

 

وفي قصة “عصيان في المملكة البيضاء”: “لا يزال حيا ولكن بلا عقل لما تعرض له من عذاب”، وفي “عندما تزرع القبور”أودعت مستشفى الأمراض العقلية”، وفي قصة “شطحات في العمق”: اختفى الصديق ولم تكن حالته النفسية مطمئنة”، ولا تنتهي هذه القصص بالجنون فحسب بل بالإبعاد القسري عبر الترحيل أو السجن، ففي قصة “الخسوف”: “فاطمئن الملك لمشورتهم ونسي العالم في السجن”، و”سجن نورا في قبو تحت الأرض إلى أن قضى نحبه” في قصة “حكاية مملكة الإنس”، وفي قصة “مملكة الأصنام”: “قبض على كل من حضروا درس تاريخ الأصنام” وفي “الخطاب الممنوع”: “ولأول مرة هرع شيوخ القبائل إلى الحاكم الإسباني للمستعمرة طالبين تحت راية واحدة ترحيل الفتاة المعجزة من أراضيهم”. وفي قصة “عندما تقبر الأسرار” “انفجرت السيارة براكبيها الثلاث”.

 

ويعطي الكاتب بعدا تاريخيا نضاليا لبعض شخصياته، فـ “الرجل الطيب” تحول إلى أسطورة “فالحادثة اخترقت جدار الصمت لترددها الأجيال التالية وتضيفها إلى أساطيرها الخالدة”، وفي قصة “تحول”: “أيقن أن تغييرا ما قد حصل” وفي “حدث ذات ليلة”، كانت الأم “تطل إلى الطريق إلى حيث ضياء الفجر”.

 

البيئة المكانية التي دارت فيها أحداث القصص، مدن وقرى تونسية، صورها باقتضاب شديد، فالقرية مكونة من بيوت متناثرة داخل حقول الزيتون، والمدينة أزقة للاجتماعات السرية وساحات للاحتجاجات، وقاعات للعلم لنقد الايديولوجيا القائمة، وخشبة المسرح التي يهيمن عليها ممثلون لهم علاقات بأصحاب القرار، الزنازين، مصحة الأمراض العقلية. ثم يخرج من فضاءات القرى والمدن الى صومعة خارج المدينة، المركز الحدودي، ضواحي غرناطة، مملكة الأنس، وهي مملكة اسطورية، مقر مجلس الشيوخ كفضاء رمزي.

 

أما الفضاء الزماني فهو يعود إلى الماضي القريب “مند عشر سنوات تقريبا، منذ زمن قريب، منذ عشرة أيام، ذلك الزمان المتقدم”، وأحيانا لا يحدد الزمن حين يحدثنا عن قصة فلكي مع الملك، أو يقص لنا حكاية وقعت في غرناطة دون تحديد الزمن، أو يعود إلى زمن الأسطورة الموغل في القدم.

 

وقد صمم أحداث القصص وفق الترتيب الزمني السببي، مع ومضات ورائية تصور الشعور بالحنين أو العلاقات بالامكنة أو الاشخاص، لذلك تتلاحم الأحداث ويفضي الماضي الى الحاضر ويعيش الحاضر في الماضي، وأحيانا يتحول الزمن إلى زمن خيبة وضياع، لذلك لا تفضي أغلب القصص إلى حل بل ان أغلب النهايات واحدة وهي إسكات الصوت المعارض. فأحداث القصص مترابطة وان تغيرت البيئة المكانية أو الزمانية اذ للشخصيات القصصية مواقفها الخارجة عن السلطة.

 

وتوخى الكاتب السرد المباشر، كشاهد على الأحداث ومتفاعل معها معتمدا على شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية متعاطفة أحيانا خاصة الام او الزوجة: “وانسكبت من عيني الزوجة دموع أحر من الجمر” في قصة “حكاية غيلم”،” منذ عشرة أيام وهي على هذا الحال، تنتظر ترخيصا من السلطة لتجتاز بجثة زوجها الحدود، وتواريه تراب قريته، افتقدت المساعدة، تنكر لها أصدقاء الأمس، عيونهم على الحاضر، هدها التردد على مكاتبهم ومنازلهم دون جدوى”.

 

في قصة “عندما تزرع القبور”، “من المغيب وهي داخل باحة الحوش، لا تفتأ تطل خارجه في كل الاتجاهات، ولا تستقر بمكان، وقد أخذ منها الهلع كل مأخد” لتصوير قلق الأم في قصة “حدث ذات ليلة” ومعرقلة في الكثير من الأحيان خاصة العامة وحراس المؤسسات السياسية من المثقفين ورجال الدين وغيرهم: “وتناقل الناس النبأ باستغراب من البعض، واستهزاء من البعض الآخر، وتكفير من رجال الدين، وظن البعض أن به مسا من الجنون لبحثه في علوم أغضبت الجان. أبلغ ملك البلاد بأمر عالم الفلك، ورأى وزراؤه وندماؤه أن الرجل خطر عليهم” في قصة “الخسوف”. وهي شخصيات ثابتة لا تتغير تصرفاتها داخل النص وكأنها تسير في الطريق المسطور لها حتى وان كانت تدرك انها تسير نحو عالم الجنون او نحو قضبان تكتم الأنفاس.

 

ومع ذلك لا يكتم الكاتب أنفاس شخصياته إذ يتركها تفكر وتصور حياتها بطريقتها ولكنه يتعقب مصيرها، ليصور من خلالها ثنائيات الصراع بين الفكر والمادة والعقل والعاطفة، اليقظة والتكلس، السلطة والمعارضة بطريقة تصادمية لا تنم عن انفراج أو حلول بقدر ما تنم عن تصادم، وعن الغاء أحدهما للاخر. فهو صراع خارجي لأن الشخصيات تبدو متصالحة مع ذاتها لا تعيش ترددا او انشطارا بل هي تسلك طريقها الذاتي، فيزيد ذلك من تشابك وضعها وتأزيمه.

 

فـ “الخطاب الممنوع” هو خطاب خارج عن نواميس العامة وعن مؤسسة السلطة الدكتاتورية التي يحرسها من سماهم “بول نيزان” بـ “كلاب الحراسة” من مثقفي السلطة.

المصدر:ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى