«الخطوط العريضة» رواية أميركيّة تغيّب الحدث

الجسرة الثقافية الالكترونية

*نازك سابا يارد

المصدر: الحياة

 

ما يلفت القارئ في رواية «الخطوط العريضة» للروائية راتشيل كاسك، أنها تجذب وتلذّ مع أنها تكاد تكون خالية من الحركة والأحداث، ومبنيّة بالدرجة الأولى على حوار بين الشخصيات. إلا أنه حوار غني بما فيه من موضوعات مثيرة للاهتمام، وصورة للمجتمع الذي يعيش فيه أشخاصها، ولنفسياتهم، فضلاً عن نقد المجتمع والوصف الرائع وبعض الفكاهة.

تسرد القصة راوية لا ذكر لإسمها ولا لإسم الرجل الذي كان جالساً إلى جانبها في الطائرة التي أقلّتهما إلى أثينا، والذي قابلته مراراً بعد ذلك. تشير إليه دوماً بـ «جاري». في الطائرة، تخبره الراوية أنها كاتبة ذاهبة إلى أثينا للتدريس في ورشة للكتابة الإبداعية، أما هو فيخبرها أنه أصلاً من عائلة مرموقة، وكان غنياً جداً قبل أن يطلّق زوجته الأولى ويفقده الطلاق راحة البال والاستقرار، وأمواله التي اضطرّ إلى دفعها في معاملات الطلاق. تزوّج ثانية امرأة لا تقرأ كتاباً، رائعة الجمال، ظنّته أغنى مما كان، فكدّ وجاهد لتوفير الأموال التي احتاج إليها لإرضاء طلبات زوجته. كانت تسيء معاملة أولاده من زواجه السابق، فانتهى هذا الزواج أيضاً بالطلاق. تركت ابنهما المشترك لزوجها المطلّق، وتزوّجت أرستقراطياً غنياً جداً. على رغم ذلك كله، أكّد لها «جارها» أنه لا يزال يؤمن بالحب. بعد وصولهما إلى أثينا، اتصل بها «الجار» ودعاها الى تمضية يوم معه في البحر، وفي الطريق أخبرها أنه كان قد تزوّج للمرة الثالثة وأنجب ولداً يعاني من انفصام في الشخصية تركه مع حارس في الجزيرة التي لا يزال يملكها. هاج البحر، انقلب المركب، وكادت تغرق، إلا أن «الجار» لم يلتفت إليها. فتخيّلت ما سيقصّ هذا «الجار» على امرأة أخرى يلتقيها في المستقبل، ليدّعي أنها هي التي أصرّت على الرحلة البحرية، فغرقت لسوء الحظ. وحين رسا قربهما قارب فيه عائلة سعيدة، راقبتهم الراوية ورأت فيهم ما حُرمت منه وكأنهم تجسيد خارجي لرغباتها.

بعد عودتهما إلى أثينا، تلتقي بصديق قديم وتنضمّ إليهما كاتبة يونانية يعرفها هذا الصديق. ويدور كل حديثها حول نفسها: مقابلاتها وشهرتها. وقبل أن تغادر تشكرهما على حديثهما مع أنها لم تترك لهما فرصة قول كلمة واحدة.

ثم تنتقل الراوية إلى صفّها في التدريب على الكتابة الإبداعية. سألت كلاً من الطلاب أن يقصّ ما رآه وهو في طريقه إلى الصف، لأن ذلك سيلقي ضوءاً على ميولهم، وشخصياتهم المختلفة ومحاولتهم فهم أنفسهم والآخرين. رأى أحدهم، مثلاً، أن مبالغة الشباب في تشويه أنفسهم بوضع حلقات في شفاههم وأنوفهم، ليس إلا رمزاً للخواء في داخلهم. ووصف آخر صعوبة حياته لاضطراره إلى العيش في شقة أخيه الصغيرة، ينام على صوفا في المطبخ الرطب حيث ينشر أخوه ملابسه التي يغسلها كل ليلة. واعترفت واحدة بأنها تحسد أختها الأغنى منها، فيما وصفت أخرى الحديقة الجميلة التي اجتازتها في طريقها إلى الصف، مسترجعة ذكرياتها فيها حين كانت طفلة تزورها برفقة جدتها. لم يبقَ إلا طالبة واحدة، قالت إنها ظنت الصف لتعليم الكتابة لا لسرد قصص، وستطالب الإدارة برد القسط الذي دفعته، وأضافت:»إنك معملة فاشلة»، وخرجت.

في اليوم التالي، يدعوها «الجار» الى مرافقته كي يعرّفها إلى أجزاء أخرى من الشاطئ. يقصّ عليها أخبار زوجته الثالثة التي كانت بمنتهى البخل وباردة جنسياً، إلا أنها كانت صادقة، طاهرة، وحسنة التدبير ولم تستغلّه مادياً حين طلّقها. ثم هجم على الراوية محاولاً تقبيلها، صدّته وتركت المركب لتسبح. حين عادت رأت في يده سكيناً ذات شفرات متعددة. تصف الكاتبة مفصّلاً لعبه بهذه الشفرات، وقد خافت الراوية من أنه يريد الهجوم عليها، لكنه لم يفعل. بعد عودتها، تلتقي زميلاً آخر من ورشة الكتابة، وتصف صفاً آخر من صفوفها حيث تحلّل نفسيات الطلاب من خلال ما يروونه، ومع زميلة أخرى في ورشة الكتابة تتبادلان الآراء حول الكتابة، وتقول لها زميلتها إن الكتّاب يستطيعون الاستغناء عن كثير من الإطالة في كتابتهم. وحين يتّصل بها «جار» الطائرة، يدعوها إلى رحلة أخرى في البحر، تعتذر بأنها مشغولة. بذلك تنتهي الرواية.

إذاً، قيمة الرواية الأساسية تكمن في دقة الوصف، في مضمون الحوار، والضوء الذي يلقيه على نفسيات المتحاورين، وبراعة الأديبة في تشويق القارئ إلى متابعة القصة على رغم قلة الأحداث فيها. مثلاً، في تحليل نفسية زوجة «الجار» الثانية، تعلّل الراوية قسوة هذه الزوجة على ولديه من زواجه السابق بنقمتها على عدم كونها الزوجة الأولى، ورغبتها في القضاء على كل تاريخه الماضي والولدين اللذين كانا الدليل الحي على هذا الماضي. أو حين يتعجّب صديقها بانايوتس الكهل من أنه لا يزال، بكل سذاجة، يأمل بإمكان تحقيق حلم مستحيل يبيّن «ألا حدود لقدرة المرء على إيهام نفسه… فكيف يمكننا أن نعرف أننا نضحك على أنفسنا؟» (ص94) أو، أن الإنسان لا يستطيع، في الزواج، أن يفصل بين ما هو وبين ما أصبح من خلال الشخص الثاني (الزوج /الزوجة). في الواقع، قد تكون الفكرة عن «الذات» الحقيقية مجرّد وهم. فقد يشعر المرء أن في داخله «ذوات» منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض، وربما قد لا تكون هذه الذات موجودة أصلاً.

وأحياناً تعبّر الراوية/الأديبة عن تأملات في الحياة والناس. منها، أن الحياة تعاقبنا على عدم وعينا؛ وأن الإنسان يصنع قدره مما لم يلاحظ أو تعاطف معه؛ وأن ما لا يعرفه أو يبذل مجهوداً لفهمه سيصبح مجبوراً على معرفته (ص94). وفي حديث الراوية / الكاتبة مع أحد أصدقائها الكتّاب، يقول إن الكتابة تعبير عن التوتّر بين ما في داخل الكاتب وما في الخارج. وفي موضع آخر، تقول الراوية / الكاتبة إن لكل إنسان وجهة نظر ويستحيل أن نعرف أين الحقيقة، لأن لا حقيقة واحدة وحيدة (ص82).

فضلاً عن ذلك، يتخلّل تحليل النفسيات كثيراً من النقد المبطّن. منها نقد الكتاب الذين يكون همّهم الأول جمع المال والدعاية لأنفسهم. في هذا المضمار، نقدت للكتّاب الذين نالوا شهرة فلا يرون غير أنفسهم. مثال على ذلك، «أنجيليكا» التي دخلت على الراوية / الكاتبة وبدأت تقصّ مفصلاً، ودون انقطاع، الدعوات التي تلقتها للتحدث عن كتبها، واهتمام الناس وإعجابهم بمضمون هذه الكتب، واعتبارهم أنها ترسم لهم خطة في الحياة (ص103). ولكنها تصوّر أيضاً، وضع المرأة التي تضطرّ أحياناً كثيرة إلى التضحية بمهنتها أو فنّها تلبية لحاجات زوجها المهنية.

ويخفّف من وطأة جدية الحوار، ما فيه من بعض الفكاهة أحياناً. مثلاً، يسرد البليونير اليوناني على جارته في الطائرة، قصة زواج والديه الذي كان منذ البدء صراعاً بينهما، ولم يتمكن أحد من التفريق بينهما إلا حين توفيا (ص9).

أما عنوان الرواية، فمستوحى من الأوصاف الكثيرة فيها، إذ تصوّر الأماكن والأشخاص والبيوت وحتى الأثاث فيها. فمن ينظر إلى وجه «راين»، مثلاً، يخال أن وجهه قد جُمع من أجزاء متفرقة لا علاقة بينها، فأجزاؤه المختلفة لا يناسب بعضها بعضاً (ص34). أو وصفها «بانايوتس» بعينيه الجاحظتين جداً وكأنهما ستطيران يوماً من وجهه مندهشتين بما قد شاهدتاه» (ص92). كذلك وصفها للوحة الفوتوغرافية للناس في مقهى عند مدخل مبنى «كيليكيا» وغرفة نوم كيليكيا نفسها (ص50-54).

بقي أن نذكر أن هذه الرواية، في الواقع، روايات متداخلة. مثلاً، يقص بانايوتس على الراوية /الكاتبة قصة رواية لكاتبة أخرى عن فنانة متزوجة من ديبلوماسي اضطرتها وظيفته إلى التضحية بفنها (ص95-96).

ومع أنها رواية تقلّ فيها جداً الحركة والأحداث، إلا أن القارئ يتمتع بالتحليلات الكثيرة للنفسيات، وللمجتمع وللشخصيات، لا سيما شخصيات الأدباء الذين ينالون بعض الشهرة. فهذه الصور الكفافية للناس، أو أوصاف حيواتهم، ترينا التباين الشديد بينهم. إن براعة الأديبة في القص تشدّ القارئ الى متابعة الرواية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى