«الخلدان الصمّاء» لعبد الحكيم القادري.. بانوراما ريفية

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

نديم جرجورة

 

 

العمالة، الحبّ الموؤود، الصداقات القاتلة، الخيانات، التقاليد الريفية، الكذب والاحتيال والنفاق، المجتمع المحافظ، الأب والسلطة الذكورية، الرغبة في خلاص معلّق أو غامض أو مغيّب، الإنجاب من دون زواج، العمل في الدعارة، الريف والمدينة، الجريمة التي تبقى من دون عقاب، إلخ. أمور عديدة يتناولها عبد الحكيم القادري (1994) في روايته الأولى «الخلدان الصمّاء». أمور عادية ومتداولة في روايات ونصوص أدبية لبنانية متفرّقة ـ كما في وقائع العيش في مجتمعٍ ليس سوياً، لشدّة الاضطرابات في مفاهيم الأخلاق والثقافة التربوية الغارق فيها ـ وإن تبقى العمالة لإسرائيل، خصوصاً في ظلّ الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) وما بعد النهاية المزعومة لها، الأقلّ «إغراءً» لاشتغالات أدبية واجتماعية وسياسية وفنية لأسباب مختلفة، لعلّ أوّلها كامنٌ في كون الموضوع نفسه مثيراً لنقاشات وتمزّقات داخلية عنيفة، وثانيها متعلّقٌ باستمرار العمالة داخل بلدٍ مفتوح على الاحتمالات كلّها (علماً أن مخرجين لبنانيين قلائل يتطرّقون إلى الموضوع في أفلام وثائقية لهم، تحديداً). أمور يُدركها كثيرون في ظلّ «نظام ثقافيّ تربويّ سلوكيّ» يميل إلى التزمّت، ويرتاح في الانغلاق، ويعاني ارتباكات عديدة في شتّى أحوال العيش اليومي.

غير أنّ النسق المُعتَمد في سرد حكايات «الخلدان الصمّاء» مرتكزٌ على سلاسة القول والوصف والسرد، وعلى توليف يُراد له أن يُكوِّن خيوط المصائر والسياقات في ترابط عضويّ متماسك في عالم واحد، هو العالم الريفيّ في منطقة كفرشوبا (بلدة الكاتب الشاب، طالب الـ «بيوكيمياء» في «الجامعة اللبنانية»)، المتاخمة لإسرائيل في أقصى الجنوب اللبناني. نسق سرديّ، وتوليف حكائيّ مرويّ على ألسنة شخصيات وراوٍ، يقتربان قليلاً من تقنية بناء مَشاهد سينمائية، ويتكاملان معاً في تشييد عمارة روائية تؤكّد أن صانعها مقبلٌ على حرفية كتابية، وساعٍ إلى مزيدٍ من تمتين لغة الوصف المتنوّع، في النفسيّ والاجتماعيّ والسلوكيّ والثقافي ـ التربويّ.

الغالبية الساحقة من شخصيات الرواية معطوبة. عطبها متنوّع. قسوة الحياة الريفية منبعٌ لأعطاب كثيرة. والعطب، إذ ينفلش على النفس والروح والنسيج الانفعاليّ ـ الاجتماعيّ، يصيب الناس في أنحاء مختلفة من يومياتهم وأنفسهم. لن يكون هناك أي تبرير لأي فعل، بل مجرّد جمع توثيقيّ (مصوغ بلغة أدبية سلسة ومتماسكة إلى حدّ كبير) ليوميات كهذه. العمالة لإسرائيل لن تكون مُبرَّرة أو منطلقة من حكم مسبق أو نظرة جاهزة. التوغّل قليلاً في ظروف شخصية العميل وصديقه يفضي إلى سرد مناخ عام، محصَّن بتفاصيل متفرّقة. الرغبة في جمع المال سببٌ للعمالة. لعلّه السبب الوحيد في «الخلدان الصمّاء». غير أنّ خاتمة مسار عمر (العميل الإسرائيلي)، التي تظهر قبل نهاية الرواية بقليل (ص 232 ـ 233)، تؤكّد واقعاً بدلاً من أن تُطلق أحكاماً. مصيرٌ «طبيعيّ» في عمل أجهزة الاستخبارات، في بلدٍ غير طبيعيّ البتّة. مصيرٌ لا يختلف كثيراً عن المصائر الأخرى، الـ «طبيعية» هي أيضاً في البلد نفسه: انهيار عصبيّ، أسئلة معلّقة وأجوبة شبه مغيّبة، موتٌ وقتلٌ وتشرّد، زواج مدبَّر ومفروض، انكشاف جرائم اغتصاب أطفال وقتلهم، مزيدٌ من تمزّقات ناتجة من خلل أساسيّ في البنية المجتمعية المتكاملة، إلخ.

تُشكّل قراءة «الخلدان الصمّاء» نوعاً من اطّلاع معرفيّ على أحوال بيئة ريفية متاخمة لدولة الاحتلال، بجوانب كثيرة من حياتها اليومية، إلى جانب كونها رواية سلسة، ومتماسكة في نواتها الأساسية وتفاصيل مسارات شخصياتها وتحوّلات ناسها ومناخها العام، وواقعية حيواتهم ومشاعرهم وآليات بوحهم واعترافاتهم.

رواية أولى هي نتاج معاينة دقيقة، ومراقبة أدقّ لتفاصيل وقصص وحالات.

نديم جرجوره

«الخلدان الصمّاء» لعبد الحكيم القادري، «منشورات نوفل ـ دمغة الناشر هاشيت أنطوان»، بيروت، الطبعة العربية الأولى، 2015، 236 صفحة.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى