الذاكرة الثقافي – سعيد يقطين

الجسرة الثقافية الالكترونية –
سعيد يقطين
التراث الثقافي ملك للأمة أو للشعب، أما فهي ملك للأفراد في مجال جغرافي وزماني محدد. أو لنقل إنها تتصل اتصالا وثيقا بالجيل. ولذلك نجدها تتغير وتختلف من جيل إلى آخر. فلكل جيل ذاكرته الثقافية التي تتصل بالأحداث الكبرى التي عاصرها، وبالنصوص التي تلقاها سماعا أو قراءة، وبالصور التي عاينها في عصره. وبما أن هذه الذاكرة تتحدد من خلال ما هو عام ومشترك لدى جيل كامل، فإنها تختلف أيضا بما يشكل ذاكرة خاصة ترتبط بالبيئة الضيقة التي يعيش فيها الفرد. فالجيل لذي عاش جزءا كبيرا من حياته إبان الاستعمار، تتباين ذاكرته الثقافية عن الجيل الذي ولد مع الاستقلال. كما أن من ولد في المدينة من أحد الجيلين ليس كمن وجد نفسه في الضواحي أو في إحدى القرى النائية. إن الذاكرة تتشكل في الزمان والمكان، من جهة، وفي العصر، من جهة ثانية. ولكل زمان رجال.
إن الجيل الذي ولد مع الاستقلال وجد نفسه، يعايش طموحات جديدة للبناء والتقدم، فنهل من أحلام الحركة الوطنية، وحركات التحرر العربية والإفريقية وأمريكا الجنوبية. كما استفاد من الازدهار الثقافي الذي كانت مصر تحتل فيه مكانة هامة. فتشكلت ذاكرته المشتركة من المطالعة والسينما والأغنية. كانت «اقرأ» بوكماخ القراءة التي كنا نحفظ نصوصها، ومنها نتبادل الشتائم بتحويل بعضنا البعض إلى «سروال علي»، أو نعت إحداهن بأنها «سعاد في المكتبة». كما أن نصوص جبران والمنفلوطي والعقاد وسلامة موسى، ولقيطة وأرض النفاق، وذهب مع الريح والبؤساء كانت تشكل الخلفية المشتركة لقراءاتنا قبل الانتقال إلى كتب دار التقدم، والطليعة والفارابي،،، وكانت السلسلة اللبنانية «المناهل» تقدم منتخبات من الأدب العربي القديم، وسلسلة اقرأ المصرية، ثم كتابك، ومجلة العربي،،، الكتب التي نقبل على شرائها، أو الحصول عليها من مكتبة المدرسة. وفي مجال الأغنية كانت الميولات تتوزع بين فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب أو عبد الحليم حافظ،،، قبل ناس الغيوان والشيخ إمام ومارسيل خليفة،،، وكانت «الأزلية» (سيرة سيف بن ذي يزن الإذاعية) مسلسل الخيال المجنح الذي نطير فيه مع الجان، ونلاحق سقرديس وسقرديون،،،
هذه المشتركة هي التي جعلت هذا الجيل ينخرط في الحياة الثقافية والسياسية، يحب الكتاب، ويعشق السينما والأدب، ويحلم بالتغيير الذي يتجاوز حدود الوطن، لأنه يعانق الإنسان. ومن هنا صارت القضية الفلسطينية مركز جذب واهتمام لدى هذا الجيل. فكانت «سجل أنا عربي»، تحتل في الذاكرة ما تحتله القصائد والمحفوظات المشتركة بين الجميع. وظلت فلسطين تجسيدا لحلم التغيير والتطور… كما كانت لصور غيفارا، ولحية ماركس، أو لحيَّة لينين، من ناحية، أو ترك الشعر والسروايل الواسعة من الأسفل، من ناحية أخرى، رموزا لذاكرة، وتمثيلا لجيل، بقدر ما نجد جزءا منه منخرطا في الحياة، نجد آخر يفضل، من المنظور نفسه، أن يعيش على هامشها.
لم تتشكل هذه الذاكرة فقط لأنها اتصلت بما بعد هزيمة 67، وبفضاءات الوطن العربي المختلفة التي كانت تبحث لها عن أفق. كانت هذه عوامل مساعدة. لقد ساهم الفعل الثقافي عبر انخراط المثقفين والفنانين في الحياة العامة أثره العميق في ذلك. وكان لدور النشر، وللمدرس العربي والأجنبي الذي يؤمن بالتغيير، أثره في طبع جيل كامل بما صار يشكل ذاكرته الثقافية.
وعلى هامش هذه الذاكرة، كانت محاولات تشكيل ذاكرة ثقافية أخرى لدى الجيل نفسه، والتي ستظهر مع الجيل الذي يليه. أي أن الصراع الثقافي يسهم بدور كبير في تشكيل الذاكرة. ومع سقوط جدار برلين، كانت الذاكرة النقيض مهيأة لملء الفراغ.
تزامنت مع تحول الذاكرة مع الجيل الجديد تغيرات كبرى طرأت على المستوى العالمي والعربي. وكان لاحتلال التيارات الإسلامية الساحة محل اليسار دوره الكبير في تشكيل ذاكرة جديدة. ساهم الكتاب الإسلامي، وأشرطة الدعاة، قاعدة هذا التحول. ثم ظهرت العشرات من القنوات الدعائية، وكان للتشجيع الرسمي دوره في محاولة العمل على محو آثار تلك الذاكرة، وتعويضها بأخرى جديدة. وساهمت عوامل أخرى، مع تطور الوسائط المتفاعلة، في تشكيل ذاكرة جديدة تختلف كل الاختلاف عن سابقاتها. وكان طبيعيا أن تتجسد هذه الذاكرة التي تربت على كتب حوى وسيد قطب وعزام،،، وسماعيات كشك، فهيمن الحجاب واللحية والمسواك، ولباس الأفغان،،، وكما كانت «الثورة» لسان حال الذاكرة السابقة، صار «الجهاد» محلها. وكما كان التمييز بين الناس يتم حسب «الرجعي» و»التقدمي»، صار الآن بين «المسلم» و»الكافر». فكان التكفير، وها داعش تستنفر الأمم؟ وكما تعايش إلى جانب الذاكرة السالفة «الهيبيون» الذين يعبرون عن رفضهم للواقع بترك الشعور، ولباس المرقعات، وإدمان المخدرات، ها نحن أمام «المشرملين» الذين يتباهون بالماركات المسجلة، وحلاقة الرؤوس على غرار نجوم كرة القدم، وطبعا إدمان المخدرات.
من المسؤول عن صناعة الذاكرة؟ وهل لصناعها استشراف لما ستحمله؟ حين لا يتم الربط بين الذاكرة والتراث الثقافي الوطني والعربي والعالمي، في أبعاده الإنسانية، لا يمكن سوى تشكيل ذاكرة تقوم على التطرف الديني أو التعصب الإثني.
القدس العربي