الراعي يوهان يريد صوره!

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

وسيم ابراهيم 

 

الوقوف أمام الكاميرا يعجب يوهان ليتا. لم تظهر على الراعي الغجري أيّ أعراض خجل. أخذ يتحرك كـ «موديل» كان على موعد مع جولة تصوير متوقَّعة. يبتسم تلقائياً، يضحك، يعدّل وقفته، يلتفت إلى العدسة. كان يسرح بقطيع أغنامه قرب طريق سيارات يعبر قرى إقليم ترانسلفانيا، وسط رومانيا. تلك المنطقة معروفة بكثافة وجود أبناء عرقه، شعب «روما» الغجري.

هناك يُعرف رجال الغجر بارتداء قبعة سوداء مع حواف طويلة. تلك التي لا يرتديها ليتا، فهو يفضِّل أن يغطّي رأسه بنوع آخر. الصدرية الفوسفورية فوق قميصه الأبيض لا غنى عنها. إنَّها احتياط أمني كي يميزه سائقو السيارات، حينما يعود ليلاً إلى قريته، مضطراً أحيانا لعبور الطريق الرئيسية. للوهلة الأولى، يبدو التقيّد بهذا اللباس أكثر ممَّا يمكن أن يطيقه غجري يقضي معظم وقته في الحقول. لكن للمصادفة، الشاهد على العواقب الممكنة كان قريباً جداً، على بعد مئات الأمتار من مكان التقاط الصورة.

النظر ينجذب إلى أكاليل ورود الزينة البلاستيكية مع ألوانها الفاقعة. كانت مثبتة على قضبان هيكل معدني صغير، منصوب على قاعدة بيتونية. وسط احتفالية الألوان تلك، يبرز لوح رخامي أسود، في أعلاه صورة للطفل المبتسم بيترو لاكاتوش. حينما فارق الحياة، في صيف 2012، كان عمره لم يتجاوز 13 سنة.

لا يمكن الجزم إن كان الهيكل يخص شاهدة قبر. كثيراً ما تظهر على جنبات الطريق هياكل لصلبان بأشكال مختلفة. الغجر، على ما يبدو، يتمسَّكون بهذه العادة، التي كانت شائعة في أوروبا سابقاً، بأن توضع إشارة في المكان الذي يفقدون فيه أحد أحبائهم في حادث سير. يعتقدون أنَّ ذلك سيجعل روحه ترقد بسلام.

لكن أيّا من الإشارات الأخرى لم تكن بكرنفالية شاهدة الصغير بيترو. كان في الصورة يرتدي القبعة السوداء، مع الزيّ الغجري التقليدي الخاص بالاحتفالات. على اللوح الرخامي نُقشت قصيدة رثاء، في أسفلها توقيع «بابا وماما». كانا حريصين على وضع اسم الدلع لصغيرهما «بومباليتزا». يخاطبان العابرين، ويناجيان روح ابنهما: «رحلت من دون أن أقبّلك، وتركت لي الذكرى».

بخلاف مجموعات أخرى في أنحاء رومانيا، يعيش الغجر حياة استقرار في قرية الراعي يوهان، وقرى أخرى في المنطقة. إنهم أكبر أقلية عرقية في هذا البلد. هناك غجر كثيرون لا يعلنون، خلال الإحصاءات، عن أصلهم العرقي، لتفادي التمييز المنتشر ضدّهم على نطاق واسع. لا تحتاج جهداً يذكر لتملّس ذلك، فهو أمر يصرح به رومانيون كثر من دون تحفّظ.

هذه إشكالية أصيلة، تواجه نحو ستة ملايين غجري، موزعين في دول الاتحاد الأوروبي. قصص كثيرة تُروى عن غربة العيش والطقوس وشذوذ الاضطهاد. «ملك الغجر في كل مكان»، لقب اخترعه إيوان تشوبو أواسط التسعينيات في رومانيا، ويستمر أبناؤه في حمله من بعده. لما لا.. هو ملك، وهم في كل مكان. في دول مجاورة، أقرّوا بانتهاج سياسة إنهاء خصوبة (سميّت «تعقيم») نساء غجريات، كي يكفوا عن الإنجاب بكثرة، كما الشائع عنهم.

التقاط الصورة كان يتزامن مع مرور الذكرى الأولى لـ «هولوكوست غجر روما». الأولى! أمر غريب فعلاً. بعد مرور أكثر من سبعين سنة على تلك الجرائم، قرَّر البرلمان الأوروبي، قبل أشهر، أن يوم الثاني من آب، سيخصَّص لإحياء تلك المأساة بحق شعب الغجر. تختلف التقديرات حول أعدادهم من ضحايا المحارق النازية. بعضها تقول إنه نصف مليون، وتقديرات أخرى ترفع العدد إلى مليون ونصف المليون من سلالة يوهان.

لم يكن في القرى ما يوحي بأيّ أثر لاحتفالية أو ما شابه. لا لافتة ولا صورة ولا تجمّع. على الطرق، كانت عائلات وأطفال الغجر يستثمرون رأسمالهم التقليدي: الوقت والمشاع. كانوا يعرضون سطول التوت الأحمر والأسود، مع علب البندق، وكلها يجمعونها من الطبيعة الكريمة هناك.

بعض أطفال الغجر المستقرين في قراهم يعيدون تمثيل مشهد معروف. جاؤوا مثل عصافير الدوري بالعدوى. أحدهم لاقى سيارة غريبة عرجت على قريتهم، فسارع سرب صغار إليها راكضين من أمام بيتهم البعيد. يريدون حبات ملبّس. يحصلون عليها. ما دام ذلك ممكناً، يذهب أكبرهم إلى خطوة أبعد: «مال؟».

هذه المشاهد تجري قبل وبعد التقاط صورة الراعي يوهان. كان يتنقَّل بقطيعه في الحقول بين قريته التسينا، وقرية بيرغش المجاورة. طرق الأخيرة كانت تغطّ في هدوء الظهيرة. المقهى الوحيد مغلق، لكن ثلاثة رجال جاؤوا بمشروبهم من الدكان القريب، وجلسوا على طاولاته. يمكن للغرباء أن يتحدَّثوا معهم بلغة الهمهمة والإشارة: المقهى يفتح الساعة الخامسة مساء.

كانوا عمالاً في ورشات بناء، جاؤوا لوقت مستقطع بثياب العمل. ردود فعل متثاقلة، بطيئة، بقلة اكتراث. جاء فتى صغير بدا متمرّساً على المشاركة في ممارسة عادات الضجر تلك: أمس لم يحدث شيء، اليوم لا يبدو أنه سيحصل، غداً سيكون على الأرجح مثل سابقه.

الراعي يوهان يتمنى الحصول على بعض الصور التي التقطت له. كرَّر طلبه. لكن كيف يمكن إرسالها؟ يشير الرجل السبعيني إلى إمكانية تدوين شيء. إذا كان سيدوّن عنوان بريده الالكتروني، ستكون مفاجأة خارج السياق. يقترب ويملي العنوان: «يوهان ليتا، قرية التسينا». هل يمكن فعلاً أن تصل الصور إلى هكذا عنوان؟

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى