الربيع الفلسطيني يزهر في باريس… على شاشة السينما

الجسرة الثقافية الالكترونية

*محمد شعبان

المصدر: الحياة

 

في الوقت الذي لا يزال فيه الكثير من الأفلام، العربية عموماً، وتلك التي تقارب المشهد الفلسطيني على وجه الخصوص، يتلقى صفعات «منع العرض»، عربياً، ولأسباب عدّة، ليس آخرها القوالب التي أطرت بها الأنظمة العربية شعوبها، (من تخوين واتهامات بالعمالة والتطبيع، وغيرها…)، نجد دولاً غربية عدة، منها فرنسا، ما زالت وفية لمبدأ إتاحة الفرصة أمام الفيلم «الأجنبي». فعدا عن الترجمة الحرفية لهذا الكلام في المهرجان الأضخم، «كان»، ها هي باريس تفتح أبوابها، لأول مرة، لاحتضان تظاهرة سينمائية فلسطينية خالصة، (كما هي الحال في لندن وتورنتو وبوسطن في الأعوام السابقة). التظاهرة التي تحمل عنوان «مهرجان السينما الفلسطينية»، وتواصلت على مدى عشرة أيام، ابتداء من 29 أيار (مايو)، توزعت عروض أفلامها على ثلاث صالات باريسية: «لوكسمبورغ»، «جامعة باريس الثامنة»، «استوديو أوبرفييه».

في بيانهم الصحفي، قال المنظمون أن المبادرة جاءت من قبل مجموعة من الناشطين الإيطاليين والفرنسيين والفلسطينين، وتمت الإشارة إلى تلقي الدعم من قبل مخرجين فلسطينيين بارزين، منهم إيليا سليمان وهاني أبو أسعد، وأيضاً، من شخصيات سينمائية عالمية بارزة، مثل كين لوش، وجولي كريستي، وآكي كوريسماكي، وغيرهم.

كما أشار البيان إلى التركيز على الأفلام التي أُنتجت مؤخراً، محاولين في الوقت ذاته التأكد من تناول مختلف الأجناس.

 

أصل الحكاية…

منذ أول منتج بصري فلسطيني، ونعني هنا الدقائق العشرين التي سجلها المخرج الفلسطيني، ابراهيم حسن سرحان، عام 1932، عايشت السينما الفلسطينية حقباً ومخاضات عدة، خاصة لجهة التحرر من «القضية»، (كحامل رئيس بالمعنى النمطي السائد، آنذاك)، إلى حين إعلان الولادة الحقيقية، وفق الكثير من النقاد والمراقبين، على يد كل من المخرجين، عربياً: المخرج المصري الراحل، توفيق صالح، في («المخدوعون»، 1972)، والمخرج اللبناني، برهان علوية، في («كفر قاسم»، 1974). وفلسطينياً: كل من ميشيل خليفي وإيليا سليمان وهاني أبو أسعد، وآخرين.

وإذْ نتحدث عن ولادة، فإننا إزاء تحولات جذرية في المشهديات البصرية الفلسطينية: من البكائية وتسوّل العواطف إلى فرضها. من أدلجة وتسليع «القضية» إلى سينمائية خالصة. من «الضحية المعلبة» والشعارات إلى العادي والحياتي اليومي. بالتالي، إحالة الصورة لتشكل النواة والحامل لـ «القضية»، لا العكس.

عدا عن التقسيمات: الروائي والوثائقي والتسجيلي، بطويلها وقصيرها، وتداخلاتها، يمكن، أيضاً، إضافة البعد الجغرافي صاحب التأثير الأكبر فالأفلام الفلسطينية، من حيث فردانية تناول المواضيع، بالتوازي مع البنيويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحاملة لها.

عند مداخل قاعة «لوكسمبورغ» السينمائية، (وسط باريس)، اختلطت أحاديث الجموع باللغتين العربية والفرنسية، بانتظار عرض الشريط الذي اختير ليستهل أمسية افتتاح المهرجان: («لما شفتك»، 2012)، للمخرجة والشاعرة آن ماري جاسر. الفيلم الذي جال عدة مهرجانات وتظاهرات سينمائية، عربية وعالمية، حصد خلالها عدة جوائز، ورُشح لأخرى، شهد حضوراً لافتاً، تلاه حوار وطرح للأسئلة على المخرج والممثل الفلسطيني، صالح بكري. فيما شهد الافتتاح مؤتمراً صحفياً بحضور عدد من السينمائيين، من بينهم: مي عوده وخالد جرار وهند شوفاني، وغيرهم.

أفلام روائية طويلة بارزة كان لها حضورها في المهرجان أيضاً. فبعد عرضه في مهرجان البندقية، يطل الروائي («فيلا توما»، 2014) لسهى عراف. الفيلم الذي أثار جدلاً بعد منع عرضه في مهرجان الإسكندرية، لأحد الأسباب التي أسلفنا ذكرها، وهنا «مقاطعة الدولة العبرية»، فيما تصر المخرجة على «فلسطينية» الفيلم، معتبرة أنها، ومجموعة من الأدباء والفنانين من فلسطينيي الداخل، يقاتلون على أكثر من جبهة في مواجهة المؤسسات الإسرائيلية.

ويعود المخرج هاني أبو أسعد إلى باريس مع («الجنة الآن»، 2005) و(«عمر»، 2013)، بعدما حققا نجاحات باهرة، لم يكن آخرها وصول أحدهما إلى «الغولدن غلوب»، والأخير إلى «كان» ضمن تظاهرة (جائزة التحكيم، «نظرة ما»). كما سيعرض فيلم آخر للمخرجة آن ماري جاسر، هو («ملح هذا البحر»، 2008)، الروائي الطويل الأول للمخرجة، والذي رُشح لأفضل فيلم أجنبي في «كان» 2009. فيما يطل المخرج رائد عندوني من خلال («ثبتني»، 2010)، حيث المقاربة المذهلة في تفكيك الـ «نحن» القطيعية مقابل الـ «أنا» الفردية، هذه الأخيرة، وإن توحي، بداية، بشيء من الأنانية، إلا أن عندون، إذْ يشرع في رحلة استكشاف مصادر التوتر في حياته، عبر العلاج النفسي والتحليلي، لإنهاء «الصداع» الذي يلازمه، فإننا نستشعر أنها تستحيل «أنا» ذاكرة كل فلسطيني، الذاكرة المشوهة بسبب الممارسات العنصرية والاضطهاد من قبل الكيان المحتل.

لطالما كان للفيلم الوثائقي الدور المؤسس في تعريف العالم بماهية المأساة الفلسطينية، ولعل الأفلام التي واكبت أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عام 2000، تعتبر الأكثر زخماً وملامسة للأفراد والوقائع، حيث بدا الفلسطيني أكثر وضوحاً وإتقانا في تقديم روايته. من هنا، نفهم الحضور الواسع، والغني، لهذا الجنس السينمائي في المهرجان الباريسي، بطويله وقصيره.

التداخل بين رحلتين: إحداهما في المكان، وأخرى في الإنسان، هي الخطوط العريضة للشريط، («يوميات»، 2010). فعبر قطع المسافة من الضفة الغربية وصولاً إلى غزة، تذهب المخرجة مي عودة بعيداً في رصد التفاصيل الحياتية للمدينة المحاصرة، عبر أفكار وذكريات ومخاوف ثلاث نساء غزاويات. وفي («رحلة في الرحيل»، 2014)، لهند شوفاني، تضيء المخرجة، بشاعرية عالية، على ما يقارب 70 عاماً التجارب السياسية الفلسطينية، عبر شخصية والدها، الياس شوفاني، الباحث والمؤلف والقيادي في حركة فتح.

ومن السرد المؤلم لحال الراهن الفلسطيني السوري، ومن مخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق تحديداً، يطل المخرج الفرنسي، آكسل سانز، بعد صولات وجولات عربية وعالمية، نال خلالها ما استحقه من جوائز، عبر شريطيه: الطويل، «شباب اليرموك»، والقصير، «عزيزي حسان»، (راجع العدد 18837 من الصحيفة).

 

والمخيمات أيضاً

ومن واقع مخيمات اللجوء أيضاً، وهذه المرة من عين الحلوة، (جنوب لبنان)، يستعرض المخرج مهدي فليفل، بحميمية، وشيء من السخرية، ثيمات الحنين والعائلة والصداقة، للأجيال الثلاثة للنكبة الفلسطينية، في «عالم ليس لنا». وعبر الحصول على المسافة الكافية مع ثنائية الحدث-المكان، تمكّن الفلسطيني من الانتقال بزاوية الرؤية، إلى حيث أمكنه التساؤل: أليست السخرية اللاذعة مثار عواطف أيضاً؟ وهو الحال في «المطلوبون الـ18»، (أفضل وثائقي عربي في «مهرجان أبو ظبي السينمائي»، والتانيت الذهبي في «أيام قرطاج السينمائية»)، رغم كونه الفيلم الأول للشاب، عامر الشوملي، (اشترك في الإخراج الكندي بول كاون).

على مدى 75 دقيقة، وعبر المزج بين تقنية التحريك والمقابلات وبعض المشاهد الوثائقية، يقدم عامر شخوص فيلمه، «أبقار»، في استعادة لقصة واقعية كان مسرحها قرية «بيت ساحور» في فلسطين، إبان انطلاقة الانتفاضة الثانية، عام 1987، حيث يوجه الجيش الإسرائيلي للأبقار، آنذاك، تهمة «تهديد الأمن القومي الإسرائيلي»! بالإضافة إلى عملين جماعيين طويلين، الأول هو «جنود مجهولون» لكل من سارة دحيدل، وحمزة خليفة، وجابر أبو رحمة، وعدي الطنيب، وروان التميمي، وأحمد عمرو، ومحمود الهذالين، وتحت إشراف مي عودة. والثاني «زمن معلق»، ويشترك فيه مهدي فليفل مع طرزان وعرب ناصر، وأسمى غانم، وعلاء العلي، وأمين نايفة، ويزن الخليلي، وأيمن الأزرق، وعاصم ناصر، ومهند صلاحات. علاوة على هذا وذاك، خصص المنظمون، عبر تقسيمها إلى مجموعتين، مساحة جيدة للأفلام القصيرة. كان منها، «ازرقاق» لراما مرعي، و(شمس خاصة) لرامي عليان، و «لا مفر» لمهند يعقوبي. إضافة إلى إلحاق عرض بعضها الآخر بأفلام طويلة، كما الحال في «موت الضوء»، (بتقنية تحريك الرسومات)، لعامر الشوملي. و «عرق» للفلسطينيين السوريين، حسن طنجي ومحمد تميم، إذ يتناول الأخير إفرازات الحرب على راهن اللاجئ الفلسطيني، حيث يبدأ رحلته بالخلاص، عبر البحر، نحو المنفى الجديد.

والحال أننا أمام مهرجان استهدف «التعريف بالجيل الجديد لصناع السينما الفلسطينية». السينما التي تمكنت من إثارة تساؤلات أكثر بكثير مما أجابت عليه. وأفرجت عن تنوع بانورامي من خلال طروحاتها وزواياها وثيماتها، ابتداء بالهوية، وليس انتهاء بالشتات والمنفى والحنين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى