الرسام العراقي هيمت في قلب الشعر الياباني

الجسرة الثقافية الالكترونية
*فاروق يوسف
المصدر: الحياة
عام 1990 كان هيمت (رسام عراقي يقيم في باريس) في زيارة لليابان، حين سنحت له الفرصة للتعرف على واحد من أكبر شعرائها، هو كوتارو جنازومي، فنشأت صداقة عميقة بين الرجلين. كانت من نتائج تلك الصداقة كتب مشتركة، حرص هيمت على أن يضفي عليها طابع اللقى الجمالية النفيسة، وهو ما وجد فيه نوعاً من التكريم لشاعر علمه الغرام بالطبيعة من خلال النظر إليها بطريقة لا يجيدها سوى اليابانيين. يومها أدرك هيمت أن درس صديقه الشاعر قد استنهض في أعماقه كل ما كان يتحرك هناك من أوهام شكلية، لم يكن قادراً على تفكيك أسرارها. فهيمت منذ بداياته لم يكن رساماً تشخيصياً، غير أن ميوله التجريدية لم تصل إلى درجة القطيعة مع الطبيعة، بل كانت هناك دائماً مستويات من التواصل لا يقر بها النظر العادي، كان يمكن القبض عليها عن طريق الحدس. كان هيمت في حقيقة ممارسته الفنية يستخرج أشكاله من حركة فرشاته، من كثافة المادة وشفافيتها، من تصادم المفردات، بعضها بالبعض الآخر، غير أنه كان يشعر بالرضا حين تشف لوحاته عن مناظر طبيعية غير متوقعة. لم يكن الرسام متشدداً في الالتزام بحرفته المختبرية، بقدر ما كان يعزز نتائج تلك الحرفة بمحاولة التلصص على الطبيعة. لذلك كان لقاؤه بجنازومي بمثابة فتح لأبواب معرفة جمالية سيدوم أثرها عقوداً. ما كان لدى هيمت كامناً، جعله اللقاء بجنازومي قادرا ًعلى أن يشخص بذاته، مخترقاً حدود التقنية الفنية من أجل الارتقاء إلى مستوى تقنية الطبيعة الداخلي، الذي لا يمكن وصفه سوى بالإعجاز. وهو وصف غامض قد لا يتيسر للرسم وصوله.
«منذ رجوعي إلى الحياة تظهر لي زهور أجمل وأكثر رونقاً. هذه الزهور التي طالما أحببتها صارت رمزاً لحياتي الراهنة» كتب جنازومي إلى هيمت، بعد مرض ألم به، كانت كــل مظاهره تؤكد أن الشاعر وهو رجل متقـــدم في السن على وشك الموت. يومها زاره صديقه الرسام، فأهداه قصائد جديدة، كانت عبارة عن نزهات قصيرة بين زهور متخيلة، كان الشاعر قد حلمها أثناء غيابه الموقت، غير أنها كانت زهوراً لا يتعب المرء نفسه في العثور عليها في اليابان. لقد أنعشت تلك الزهور الجزء النائم من ذاكــرة هيمت فقرر أن يرسمها تحية ولاء جمالي منه إلى صديقه الراقد على فراش المرض. ولكي نكون منصفين فإن هيمت كان قد وقع في تلك الفترة تحت تأثير الصدمة الجمالية التي أحدثتها زهور سي تومبلي (رسام أميركي عاش بين سنتي 1928 و2011) فقرر يومها أن تكون له زهوره المستلهمة من درس صديقه الشاعر الياباني. ولئن تومبلي كان قد استخرج زهوره من لحظة هذيان تصويري (لوحات سبع، يصل عرض الواحدة منها إلى سبعة أمتار بارتفاع مترين) فقد سعى هيمت إلى أن تكون زهوره قريبة من الأرض. كانت رحلته الحزينة قبل سنتين إلى كركوك، هناك حيث ولد عام 1960، أشبه باللحظة التي تطابقت فيها مدركاته الحسية بما تعلمه من درس صديقه الشاعر الذي مات قبل سنوات.
لقد شعر هيمت يومها أن في يده قبضة من زهور كركوك يمكن أن يضعها على قبر صديقه الشاعر. لذلك شد رحاله إلى اليابان من جديد وهو يعرف أن ليس هناك جنازومي ليستقبله. (زهور يابانية في كركوك) هو عنوان معرضه الحالي وهديته إلى صديقه الشاعر الميت.
لقد أهداه الشاعر طريقة مختلفة في النظر فكان عليه أن يهديه زهوراً مختلفة، وهو يعرف أن الزهور مهما كثرت لن تكون فائضة على مائدة الشاعر. لقد تكررت زيارات هيمت إلى كركوك وكان في كل زيارة يقتنص زهرة جديدة، ليضيفها إلى صندوق صديقه الياباني. كان يود أن يقول له «هذه زهرة لم تعرفها من قبل» وهو ما سعى إلى أن يقوله من خلال الرسم. لقد أوحى إليه صديقه الشاعر أن الزهور تصل إلى الآخرة حتى وإن كانت مرسومة. سيكون عليه أن لا يكتفي بالكلام عن الرائحة، هناك أشكال جديدة ستخرج من العدم. سيفاجئ هيمت صديقه الشاعر الميت بزهوره. «إنها لك. لا من أجل أن تراها بل من أجل أن تتنفس هواءها» ألا يحق لهيمت أن يحلم في أن تكون كركوك واحدة من جزر الأرخبيل الياباني؟ يعيد هيمت تركيب سيرته الشخصية من خلال الرسم. لذلك فإنه لا يجد مانعاً من أن يلقي زهرة على قبر صديقه الشاعر، هي في حقيقتها زهرة لا وجود لها في الواقع. إنها زهرته التي حملها من كركوك إلى اليابان من أجل أن يقول لصديقه «إنها زهرتك المتخيلة».