الرسام المصري الرائد محمود سعيد العائد من ميلاده

الجسرة الثقافية الالكترونية

*فاروق يوسف

المصدر: الحياة

 

يكفي أن تذهب إلى متحفه في الإسكندرية لكي تستعيد متعة الجمال الذي اقترحه منذ خمسين سنة. الرسام المصري محمود سعيد (1897- 1964) لم يذهب إلى الهامش الريادي باعتباره ساحراً من الماضي، انقضى زمن ألعابه بعد أن انكشفت أسرارها وبطل تأثيرها على العيون. لا تزال رسومه تأسر المصريين، محاطة بألغاز رجل قضى الجزء الأكبر من حياته منهمكاً في تصريف فقرات القانون واقعياً. صحيح أن شغفه بالفن لم يتضرر كثيراً بعمله في سلك القضاة، غير أن الرسام الذي رغب في التقاعد المبكر وهو في سن الخمسين، كان يدرك جيداً حجم المسؤولية التي تقع على عاتقه وقد قُدر له أن يكون رساماً. اليوم تتذكره القاهرة حيث يقام معرض استعادي له في غاليري سفر خان لمناسبة عيد ميلاده الثامن عشر بعد المئة.

بطريقة تاريخية يمكننا النظر إليه باعتباره مخترع الهوية المصرية في الفن الحديث. لكن قد تكون الدعاية الشعبية أكثر تأثيراً من جهة قدرتها على الترويج. فسعيد هو صاحب اللوحة الأغلى ثمناً في العالم العربي. لقد بيعت لوحته «الدراويش» المرسومة عام 1935 عن طريق مزاد كريستيز بمبلغ 2.434 مليون دولار عام 2010. في الحالين فإن قيمة محمود سعيد رساماً تتخطى كل ذلك لتستقر في إلهام مبكر، لن تتمكن منه الهوية المصرية التي هي صناعة ثقافية ولا القيمة التجارية التي هي صناعة سوق. كان محمود سعيد رساماً فذاً، لا بما امتلكه من حرفة متقنة، بل بخياله الذي جعل من فرعونيته مصدراً لمرحلة أخيرة من حياته إلى جمال ممكن وسط تصادم مدهش بين مدارس الفن الحديث.

لم يكن محمود سعيد مستعداً للعودة إلى الماضي وهو الذي درس الرسم في باريس، غير أن نظرة سريعة على أعماله لابد أن تؤدي إلى الحكم بمصريتها. «هذا فنان مصري» وهو ما لم يكنه أحد من قبله سوى الفراعنة الذين لم يكن أحد ينافسهم في عصرهم على هوية اخترعوها بأنفسهم. هل كان سعيد يخطط لاختراع هوية جديدة للمصريين تنسجم مع رغبته في أن يكون فناناً معاصراً؟

كان سعيد رساماً متعوياً. يرى فتوحي له الرؤية باللعب. وهو اللعب الذي انتهى به في المرحلة الأخيرة من حياته إلى أن يرسم صوراً شخصية، من غير أن يكون معنياً بالشبه. كان اهتمامه منصباً على أن تلحق تلك اللوحة بخياله. أن تتعرف يده على ضربتها على السطح.

لقد رسم سعيد المصريات كما لم يرسمهن أحد. غزله لم يكن خفيفاً، محلقا بل كان يضرب على وتر عاطفي لم يكتشفه أحد من قبله. مصرياته هن، كما لو أنه كان يصف ممتلكاته الشخصية. الرسام الحر فيه جعله قادراً على الاسترسال في صنع صور مختلفة لوديعته الجمالية. لم تكن مصريته تسبقه بل كانت تلحق به، فهو صانعها. في رسومه يجد المرء نساء اخترعهن من أجل أن تكون صورة المرآة المصرية ممكنة. سيقال دائماً «هي ذي» غير أنها في الحقيقة لم تكن كذلك قبل أن يرسمها محمود سعيد.

هل يمكننا القول إن محمود سعيد كان قد وهب المصريين واحدة من أعظم لحظات إشراقهم. لقد أطل بهم على العصر من غير أن يضطرهم إلى التخلي عن زهوهم الفرعوني الذي لم يتماه معه.

كان محمود سعيد رساماً حديثاً، بكل ما ينطوي عليه مفهوم الحداثة من معان. وهو ما ميزه عن الرسامين المصريين الذين ظهروا في حقبته. لم يكن نخبوياً في أوروبيته كما أنه لم يكن شعوبياً في مصريته. كان دائماً الرسام الذي رغب في أن يكونه.

اليوم تستعيده القاهرة، كما لو أنه أتى لتوه من الإسكندرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى