الرواية الرقمية نص مفتوح على حنين إلى الماضي

خالد عزب
يوفّر العالم الرقمي بُعْداً تقنيّاً متميّزاً لعوالم الرواية: إنّه البُعد التفاعلي الذي يتيح المشاركة بين الروائي وقُرّائه في كتابة النص. تندلع التفاعليّة عبر اقتراحات القراء أو حتى إضافتهم إلى النص، وربما ظهر بينهم من يلتقط الخط الروائي الأول، ما يفتح الباب أمام إعادة صنع النسيج الروائي برمّته. هل يرهص ذلك بظهور تقنيات جديدة للكتابة في مستقبل قريب؟ الأرجح أن تأتي الإجابة بنعم، لأن التفاعليّة شرعت فعليّاً في تغيير تقنيات السرد الروائي. وحاضراً، هناك تجارب عن صنع مشاهد روائيّة مختلفة نوعيّاً عبر استخدام التقنيات الرقميّة التفاعليّة، بمعنى حضور الفيلم التسجيلي في المشهد، إضافة إلى الوثيقة والصورة والرسوم وغيرها. بقول آخر، في تلك التجارب لا يعود النص السردي مجرد كتابة بل تتفاعل معه أدوات أخرى تكمله وتعطيه أبعاداً أخرى.
كذلك يعتمد العالم الرقمي في الرواية على الجمل القصيرة، والردود السريعة، والبناء التصاعدي للحوادث، بحيث نرى أنفسنا هنا أمام نص يتداخل حتى مع حوادث جارية، كأن يلتقط خبراً ما ليكون بداية تُنسَج حولها قصة قصيرة أو رواية طويلة. واستطراداً، يذكر الأمر تقنية «ألف ليلة وليلة» و «السيرة الهلالية» بمعنى كونها نصوصاً أدبية مفتوحة تميزت بأن أكثر من يد أضافت إليها، بل أعادت كتابتها وفق سياقات الزمان أو اختلاف المكان، إلى حدّ أنه لم يعد يُعرَف من هو كاتبها الأول! ومثلاً، الطبعة البغدادية من «ألف ليلة وليلة» هي شيء مختلف عن طبعتها القاهرية التي دخلت عليها أشياء كثيرة مع مرور الزمن.
التورّط في السياق القصصي
في تلك المشهدية، لا يستهلك المتلقي النص، بل يتورط فيه. وربما نرى في المستقبل جيلاً من الروائيّين تشكل الذات الإنسانية أحد محاور كتابته الرقميّة. في المقابل، ربما ظهر حنين في تلك الحال لدى إنسان العوالم الرقميّة للعودة إلى آفاق عالم الواقع فعليّاً.
وعلى قدر التقدّم علميّاً، ربما ظل الماضي ببساطته محل دهشة الأجيال الآتية. وفي ذلك المعنى، نجد أن كتب العجائب والخرافات كتلك التي قصّها ابن الوردي، تتحوّل عملاً إبداعيّاً يقدّم بتقنيات ذات أبعاد ثلاثية. وربما ظهر قارئ في المستقبل إلى روايات كـ «الأيام» لطه حسين و «الحرافيش» لنجيب محفوظ. هل يظل الماضي يسيطر على خيال الإنسان في المستقبل؟
في حقيقة الأمر، هناك مسألة الحنين للعيش كما كان يعيش إنسان ما قبل الآلة، عندما تتسيّد الأخيرة مشاهد الحياة ومناحيها كافة. في تلك الحال، ربما ظهر من يسعى للبحث عن إجابة لسؤال من نوع: كيف كان يعيش هؤلاء من دون عوالم ذكية تتحكم في حياتهم؟ في ذلك السؤال، هناك قدر من ترميم الذاكرة الإنسانيّة، فتتحول الرواية أداة للتفكير في الماضي والحاضر والإنسان والمجتمع والمعنى واللامعنى والحب والغدر واليأس وغيرها.
وإذا ظهر وضع أمام إنسان العصر الرقمي، يجعله أسير الآلة التي تفهمه وتقرأ شخصيته، فلربما هرب إلى عالم يخلو منها، بل يهرب من واقع يهدر خصوصيته، ليستعيد عالماً كان مملؤاً بتلك الخصوصيّة.
أدب الرحلات على شاشة ثلاثيّة الأبعاد
الأرجح أننا نعيش الآن مرحلة تتأرجح بين العالم الواقعي وأدبه، وعالم رقمي يهدد باختزال الإنسان إلى مجرد رقم تتداوله الآلات الذكية على مدار الساعة. وإذ يرصد ذلك الرقم في الحواسيب إلى حدّ إفقاده القدرة على الانفراد بذاته، فلربما هرب بتلك الذات إلى عالم واقعي يكون فيه أكثر من مجرد رقم.وهناك مجال أيضاً لتوقع أنه كلما كانت لدى الأديب القدرة على التعبير عن عصر ما قبل الإنسان الرقمي، كان أدبه أكثر جذباً للقراء. هل ينبغي أن نتوقع مستقبلاً يصبح فيه «حديث عيسي بن هشام» للمويلحي موضعاً لإبداع عالمي، نظراً إلى قدرة ذلك العمل على التعبير عن الإنسان والتحوّلات التي رصد حدوثها في مجتمعه عندما عاد إليه بعد غيبة معيّنة.
في ذلك السياق، من الممكن توقع مقدار الدهشة التي تظهر عندما تصبح نصوص أدب الرحلات رسوماً كرتونيّة ثلاثيّة الأبعاد على شاشات الخليوي، ولربما تغدو رحلات ابن بطوطة وماركو بولو الأكثر مشاهدة عالميّاً.
ويظهر سؤال عن كون المعطيات الآنفة تمثّل نوعاً من التجريب. إذن، لنتذكّر أن التجريب في المشهد الروائي هو استراتيجية نصية لها منطلقاتها النظرية ورهاناتها الإبداعية ولها طرائقها الفنية وتقنياتها الجمالية. ويتبنى تلك الوجهة نقّاد عرب من بينهم عبد المجيد البحيري ومحمد ثابت من تونس ومحمد منصور من المغرب. وفي المقابل، يرى معظم النقّاد أن التجريب هو بحث عن صيغ جديدة في السرد، واستحداث أشكال مبتكرة في الإخبار، وخلخلة قواعد السرد المكرسة وقوالبه الجاهزة.
وبمعنى ما، تبدو الرواية العربية تجريبية بطبيعتها ونشأتها وصيرورتها. لذا، يحمل القول أن زمن الرواية في العصر الرقمي انتهى، الشيء الكثير من المجازفة. الأرجح أن تغيّر الرواية طرائقها، ولكنها لن تفقد مقعدها في منظومة الأجناس الأدبيّة. ومستقبلاً، يتصاعد قبول الرواية وانتشارها بمقدار قدرتها على تشخيص الواقع، ودفع المتلقي إلى الاعتقاد بواقعيّة العالم المشخص حتى لو كان خياليّاً؛ كأساطير مصر القديمة وعراق بلاد الرافدين وغيرهما.
ومن المستطاع القول أيضاً أن أهمية النصوص الموازية للعمل الأصلي، تكمن في طريقة تعاملها مع النص الذي أبدعه صاحب العمل الأول، إذ لا يتوقّف العمل الروائي عند الحافة الرقميّة، بل الأرجح أن نرى حيرة النقاد أمام ظاهرة الهروب إلى الماضي بصفته ملاذاً قابلاً للفهم وممارسة السيطرة الإنسانيّة عليه.
(الحياة)