الرواية الفنية لتاريخ إيران المعاصر

الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات -صادق ابو حامد -بعيداً عن الضجيج المستمر الذي يصاحب اسم إيران، بعيداً عن أذرع نظامها الممتدة في غير مكان من الشرق الأوسط، وبعيداً عن الخطابات الرنانة لقادتها في خلطهم المستمر بين الدين والطائفة والسياسة والمصالح، يقدم معرض «إيران تاريخ خام» Unedited History: Iran 1960-2014 العمق الفني والثقافي للتغيرات التي طرأت على هذا البلد خلال أكثر من نصف قرن. يزيح المعرض قشرة الشعارات التي يغطي بها النظام مجتمعه ليكشف عبر الإنتاج الفني عن التبدلات العميقة، والأسئلة الصعبة، التي مازالت تعصف في وجدان الإيرانيين.
المعرض الذي نظم في متحف مدينة باريس للفن الحديث Musée d’Art Moderne de la Ville de Paris يرتّب الفن الإيراني المعاصر عبر ثلاث مراحل تمايزت عن بعضها بتحولات سياسية عنيفة، وتركت أثرها في تشكيل الوعي الفني والفكري لإيران الدولة وإيران الشعب. يقدم المعرض نماذج دالة عن التعبيرات الفنية لتلك المراحل لا ليقدم تأريخاً مدرسياً لإيران المعاصرة، وإنما ليجعل الأعمال الفنية تشير إلى عمق التحولات التي فرضتها المنعطفات التاريخية. تعبير «التاريخ الخام» united history المأخوذ عن القاموس السينمائي يراد منه هنا تقديم مشاهد فنية غير منقحة من تاريخ إيران المعاصر، دون توظيف مسبق، ودون قص وتركيب لتلك المشاهد.
عندما تتجاوز الحداثة إرادة الاستبداد
تبدأ المرحلة الأولى عام 1960 وتنتهي بانطلاق الثورة الإيرانية عام 1979، وهي الفترة التي اتسمت بالتحديث والانفتاح على صعيد الفن التشكيلي والسينما والمسرح والموسيقى. رغبة شاه إيران في إضفاء طابع أوروبي على إيران، خاصة بعد استعادته للسيطرة على الحكم إثر انتصاره على مشروع رئيس الوزراء مصدق الذي اغتيل عام 1953، جعلته يفتح بوابات للفن الحديث، ويوفر بيئة للتواصل مع الثقافات الأخرى، وخاصة الغربية منها. ينجح شاه إيران محمد رضا بهلوي في رسم واجهة حدثوية للبلاد التي يحكمها بحديد القرون الوسطى. لكن ذلك الانفتاح سرعان ما يتجاوز حدود السطح، ليأخذ دوره في تعبئة المجتمع ضد الاستبداد، والفقر، والظلم، ليشكل أحد عوامل تهيئة الثورة.
القسم الأول من هذه المرحلة يبدأ بمجموعة من أعمال الفنان الإيراني بهمان محصص (طهران 1931 ـ روما 2010). لوحاته تستحضر الشخصيات والكائنات الأسطورية لتعيد تشكيلها بأدوات معاصرة، بعد أن يحمّلها هموم الذات المعاصرة في صراعها مع المجتمع والسلطة، وفي سعيها المحموم إلى حرية محاصرة.
في هذا القسم يظهر كذلك عمل فيديو شديد الحساسية والعمق عن تاريخ إيران للفنان بارويز كيميافي (طهران 1939 ـ يعمل ويعيش حالياً في باريس). عبر خمس شاشات صغيرة يقدم كيميافي مشاهد من تاريخ إيران من زمن الشاه وحتى الوقت الحاضر. زمن البحث عن الذات، وعن الآخر، اكتشاف النفط، وكسر حداثة الاقتصاد والتكنولوجيا لتقاليد المجتمع الريفي، ولا ينسى هول الحرب، وعنف الجموع الغاضبة. من خلال خمس شاشات يقدم الفنان عملاً يسميه (شيئان أو ثلاثة أعرفهم عن إيران 2014)، مختصراً الانقلابات التي أصابت المجتمع الإيراني المعاصر.
محوران هامان يضمهما هذا القسم أيضاً. الأول يظهر الحراك الثقافي الذي شهدته فترة «التحديث» مع مهرجان شيراز بيرسابوليس الفني Shiraz-Persepolis، المهرجان الذي انطلق عام 1967 ليتحول سريعاً إلى ملتقى عالمي لفنون الغناء والموسيقى والرقص، مقدماً رؤية جديدة لعالم يبعث هويته بعد تحرره من الاستعمار، ويجمع البشرية على حلم موحد. اهتمامه بالإبداعات القادمة من الدول المستقلة في آسيا وإفريقيا لم يحل دون شموله الإبداعات التقدمية في الدول الغربية والتي تدور حول الحلم ذاته.
أما المحور الآخر فيتناول حي شهر نو، الحي الأحمر في طهران الذي كان يضم عالم المومسات السري. الفنان كيفيه غولسيان (إيران 1950 ـ العراق 2003) كرس سنوات في التصوير واللقاءات وجمع الوثائق لفهم وشرح الحياة الصعبة والمعقدة لهذا العالم المحاصر اقتصادياً واجتماعياً. الصور الشخصية للمومسات التي تملأ الصالة تحكي الكثير عن شريحة مسحوقة ومهمشة تعيش في هذا الحي خارج أي اهتمام رسمي أو اجتماعي. الحي الذي تشرح لنا صور وعناوين الجرائد كيف دُمّر وأُحرق بعيد انطلاق الثورة الإيرنية.
تمجيد الشهيد على جثة المعارض
الثورة والحرب الإيرانية العراقية تمثل المرحلة الثانية من هذا «التاريخ»، هنا تتراكم صور ورسومات وملصقات وأفلام عن الموت والجراح والدمار والآمال. الثورة التي كانت حلم وإرادة الجماهير والأحزاب الإيرانية على تنوع أفكارها وميولها سرعان ما يقبض خامنئي ومريدوه على مصيرها ويجعلونها بلون واحد وتحت عباءة واحدة. تتراكم عمليات القمع والانتقام والتخوين ساحقة كل رأي مخالف مهما كان هذا الرأي قد ساهم في التعبئة ضد الشاه، وفي النضال ضد مؤسسات القمع. ثورة مسروقة لا يحتاج سارقوها لشيء قدر حاجتهم لعدو خارجي كي يطبقوا بحجته على الأنفاس المعارضة.
لم يكن لسلطة الطائفة الواحدة والحزب الواحد والرأي الواحد أن تجد أفضل من الحرب الإيرانية العراقية كي تحشد الجميع تحت راية الوطن التي سرعان ما تُختزل في راية «الثورة الإسلامية» لتُختصر الأخيرة بدورها في قداسة آية الله الخميني. وكأن نظامي الخميني وصدام حسين كانا يشد واحدهما بأزر الآخر، ويمتن مؤسساته القمعية، من خلال حرب جنونية راح ضحيتها الملايين بين قتلى وجرحى. في تلك الحرب المقدسة كان لا بد للإيديولوجيا أن تصنع مقدساتها، مقدسات تنفخ في الناس روح التحدي، وحب الموت، والتضحية بلا حدود لأجل النظام المدافع عن شرف الأمة. في تلك الأجواء المشحونة بالثورة الديكتاتورية، والحرب القاسية، ولدت إحدى أعتى أساطير الشهادة المعاصرة. أسطورة ما كانت لتسلب عقل الشعب البسيط لولا دعاية دينية سياسية حثيثة استخدمت كل أدوات الإقناع وأولها الفن. الرسومات والصور والملصقات والمنحوتات التي تمجد الشهيد والشهادة باتت الشغل الشاغل لآلة النظام الإعلامية. شهادة مسوّرة بكلمات الخميني ومظلومية الحسين ودمه المنتصر على السيف.
بيد أن الحرب ليست موتاً فقط، هناك عالم كئيب خلفها من أهالي القتلى، ومن الجرحى وأهاليهم، ومن مجتمع مسلوب البهجة. هذا المشهد القاتم تنقله مجموعة صور أشبه ما تكون بالصور العائلية التذكارية، تنقل وجع الحرب بقدم مبتورة لأب هنا، ويد ناقصة لشاب هناك، وعائلات تعلق صور قتلاها.
انتصار النظام.. وهزيمة الشعب
مرحلة الرهانات المعاصرة 1989-2014 تسجل فترة تقدم اقتصادي وتكنولوجي مع التخلص التدريجي من الأعباء الباهظة للحرب. لكنها في الآن ذاته كانت مرحلة انتصار وتمكين لنظام الملالي. تميزت هذه المرحلة فنياً بانقطاع جزئي مع الجيل السابق بعد رحيل العديد من الفنانين إلى الدول الغربية هرباً من الطغيان، وهرباً من حشر الفن في مؤسسة السلطة. رغم ذلك ظهرت تجارب فنية مستقلة استطاعت التشكل والنمو. تجارب جديدة تنقل مشاعر الاغتراب والذاتية الجريحة التي عاشها الصوت المختلف، لتتمكن من توسيع هامشها في فضاء معارض كان له أن يتمدد تدريجياً مع الدخول القسري للتكنولوجيا والعولمة، وانفتاح الفضاء الافتراضي كمساحة بديلة للمعارضين.
عملان أساسيان يشغلان فضاء هذا القسم من المعرض. الأول لميترا فرحاني، وهو عبارة عن تشكيل من مجموعة صور تقف كالحواجز في الممر. صور لشخصيات مختلفة تحمل كل شخصية رأسها بيدها، فيما يشبه تصويراً لحالة الفصام التي تعيشها الشعوب المقموعة. أما العمل الآخر فيجسد الحكاية الأسطورية التي نظمها فريد الدين العطار في القرن الثاني عشر الميلادي. حكاية «منطق الطير» التي تروي قصة رحيل آلاف الطيور بحثاً عن إلهها الأسطوري، لينسحب أغلبهم في الطريق الصعبة، فلا يكمل الرحلة سوى ثلاثين طيراً. الطيور التي ستقطع أودية السلوك السبعة من الطلب إلى العشق والمعرفة والاستغناء والتوحيد والحيرة وأخيراً الفقر والفناء، لتكتشف بعد كل هذا العناء أن الإله المفقود ليس سوى اجتماع الطيور الثلاثين، فهم في وحدتهم يمثلون طائر السيمرغ الأسطوري الذي حوله العطار إلى سيمرغ ليحمل في اللغة الفارسية اسم الثلاثين طيراً. بيد أن الطيور الناجية في حكاية العطار تبدو صريعة في تشكيل الفنان (…)، وكأن معاني الخلود والتجلي والتوحيد الصوفية التي أرادها فريد الدين العطار، تحولت في اللحظة المعاصرة إلى دائرة عدم مقفلة.
يذكر لهذا النوع من المعارض أنها تخرج البلد المعني من صورته المسطحة التي عادة ما ترتبط بنظام حكمه، وتعبيراته السياسية. المجتمع الفرنسي الذي تبدو إيران مختزلة بالنسبة إليه في العقود الأخيرة، بمجموعة من الملالي وخطابات عدائية، ونظام قمعي سياسياً واجتماعياً، إيران تلك توضع ولو لمرة واحدة جانباً، ليكشف عن حقيقة أخرى أكثر تنوعاً وإبداعاً وجمالاً.
مع ذلك يؤخذ على المعرض أنه إذ يقدم صورة عن ازدهار الحداثة والفن في عصر الشاه، لم يعط أهمية للتعبيرات الفنية المعارضة لنظامه القمعي الذي كبّل الإيرانيين بالحديد والنار. نظام لولا أنه بلغ من الوحشية والظلم سياسياً واقتصادياً درجة خانقة لما انطلقت ثورة عارمة ضده. الثورة التي شاركت فيها جميع القوى المعارضة في حينه، قبل أن يخطف الخميني نضال الآخرين، ويجعل من الثورة تجسيداً لأفكاره، ومن نفسه تجلياً للثورة، ليزج بكل من خالفه في السجون، وليعدم ما شاء له التعصب الإيديولوجي أن يعدم.