الروماني ماكس بليشير نافس كافكا بواقعيته الخيالية

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أنطوان جوكي
المصدر: الحياة
معظمنا قرأ الكاتب التشيكي فرانز كافكا، ويعرف أن رواياته أسست لأسلوب «الواقعية الخيالية» الذي يقوم على تشييد عوالم مقلِقة بواسطة عناصر مستقاة من عالمنا الصناعي الحديث، اكتسحت فضاء الحياة اليومية. لكن قلة تعرف أن هذا الأسلوب مارسه، في الحقبة نفسها، كتّاب لا يقلّون أهمية عن كافكا، لكنهم لم يحظوا بالشهرة نفسها، مثل البولوني برونو شولز والسويسري روبير والسِر. ولا شك أن الروماني ماكس بليشير (1909 ـ 1938)، الذي صدرت أخيراً ترجمتان فرنسيتان لروايته «مغامرات في اللاواقع الآني» (1935) عن دار «موريس نادو» ودار «لوغر»، ينتمي إلى هذه الطائفة من الكتّاب الذين كان قدرهم أن يختبروا في قرارة ذاتهم مرض عصرهم، وبالتالي أن يعيشوا داخل كابوسٍ مستمر.
مثل كافكا، شولز ووالسِر، عانى بليشير باكراً من مرضٍ خطير (تدرُّن عظمي) أجبره على الإقامة مطوّلاً في المصحّات، وعلى البقاء ممدداً معظم حياته القصيرة (توفي في سن التاسعة والعشرين). لكن هذا لن يمنعه من انتزاع اعترافٍ بموهبته الكتابية الفريدة من الطلائع الرومانية، وعلى رأسها أوجين يونيسكو الذي وصف «مغامرات في اللاواقع الآني» (1935) بـ «الملحمة الداخلية»، ومن الطلائع الفرنسية، وفي مقدّمها أندريه بروتون الذي نشر بعض قصائد بليشير في مجلة «السورّيالية في خدمة الثورة».
في طبيعتها، لا تقترب رواية بليشير المذكورة من العوالم السورّيالية فحسب، بل تشكّل أيضاً خير تمثيل لما كتبه بروتون قبل سنوات قليلة من صدورها، في «البيان السورّيالي الثاني»، حول تلك النقطة الأعلى من الذهن التي يفقد الواقع والخيال فيها تناقضهما. لكن ترجمة هذا النص المتأخّرة إلى الفرنسية (1973)، ثم إلى لغات أخرى، ساهمت في بقائه مجهولاً لفترة طويلة، علماً أنه الأكثر فتنةً وبلبلةً لإدراكنا داخل إنتاج بليشير الأدبي، والعمل الذي أمّن له انقشاعاً، وإن محدوداً ومتأخّراً، في بلده. ومع أنه مستقى من تجربة الكاتب كإنسانٍ مريض ومعزول، إلا أنه يتجاوز هذه التجربة لمساءلة داءٍ أكثر عمقاً وضبابية، متجذِّر في الطفولة، ويلامس تلك الصعوبة في الكينونة. صعوبة لا تغادر الراوي، بل تنال من علاقته بالعالم والآخرين، ومن إدراكه لنفسه، لحدود جسده وهويته المصدّعة.
وبالتالي، لا يتناول بليشير، في هذه الرواية، حياته اليومية في المصحّات، بل سنوات طفولته ومراهقته التي ظهر فيها ذلك الداء الآخر الذي، بخلاف مرضه، لا يحمل اسماً، وإن تسمح بعض الإشارات والقرائن، على طول النص، بإطلاق فرضيات مختلفة تفسّر عوارض التغرّب والانفصال عن الواقع وضياع الشخصية: تسمّم بواسطة الأدوية، رؤى حُلُمية، هلوسات، اضطرابات في الإحساس. لكن بمحاولتنا تفسير هذه الظواهر، سيفلت منا حتماً الأساسي، أي ذلك الاستكشاف الداخلي لانتفاضات إدراكٍ يسعى يائساً إلى بلوغ العالم والآخرين، لكنه يتفسّخ عند الاتصال بهم أو يتجمّد داخل أحاديته.
رواية مسارّية إذاً، تتشكّل الذات فيها، بقدر ما هي رواية تشوُّهِ الإدراك، حيث يصطدم اكتشاف الجنس والرغبة والنشوة بانغلاق الآخرين أو بانحلال الراوي، ضمن علاقة وجودية دائماً غير متناسقة. رواية نتنقّل فيها من مكانٍ إلى آخر مع الراوي داخل «عالمٍ بشع» يتقطّر منه اليأس، ونعيش تجربة تستحضر، برؤاها الداخلية وانخطافاتها وذاتيتها الراديكالية، التيه الشعري لبودلير في كتاب «سأم باريس»، حيث لا ينفك الراوي ينحرف في تجواله وفقاً لعوارضه الهستــيريـــة، عـــابراً الكثـــير مــن الشــوارع والجــادات والحــدائق العامة، ومركّزاً اهتمـامــه خلال ســيره على كائــنات محدّدة، هــامـــشـية أو مــــتقدّمة فـــي الســــن، مـــخــترقاً إدراكها. الاختلاف الــوحـيد بــين النــصّين هو أن الآخر، بالنــسبة إلى بليشير، يبقى خارج المنال، مستحيلاً ولوجه. فتحـــت نــظره، تفقد الكائـــنات مادتها، تتحوّل إلى هيولى، إلى جماد، أو تأخذ ملامح خيالية. وداخل ضياعه، شعوره بالوحدة، أو بما يسمّيه «كآبةً وجودية»، يستسلم راويه للجامد: أشياء ومشاهد تخضع لإسقاطات حساسيته المفرطة، وأماكن تطلق العنان لنوباته، بشكلٍ منهجي، مسبِّبةً دواوير (جمع دوّار) وإغماءات وحالات انخطاف، أماكن مثل متجر لبيع آلات الخياطة حيث كان يقضي معظم وقته ويرى نفسه كقطعة من الأثاث، «امتداداً لكنبة عتيقة»، أو صالة سينما حيث كان الغوص في الفيلم المعروض يفقده ذاتيته، أو محترف نحت حيث كان يشعر بتكشيله جزءاً من المادة، أو قبو مهجور حيث اختبر علاقة استيهامية مثيرة، أو نهر حيث كانت الضفّتين تأخذان تعرّجات مقلِقة لدى استحمامه فيه.
باختصار، تخطّ رواية «مغامرات في اللاواقع الآني» بورتريهاً متقلّباً لوجودٍ هامشي، مستحضرةً أحياناً، في التجوال الرتيب لراويها، التجوال الحاضر في رواية جورج بيريك، «رجلٌ نائم». فبطلها لا يعيش الأشياء إلا من مسافة معينة، من دون أي إمكانية للمشاركة فيها. فحين يحضر حفلة زفاف، نجده يتابع تفاصيلها وأحداثها من الخارج، من تلة قريبة، مشهد لن يلبث أن يلفّه الضباب. ومن موقع المراقِب، نراه يتذوّق عزلته، «بعيداً عن العالم وطرقاته الحارّة والمغيظة». بطلٌ معلّق في الفراغ، في حالة توازن هشّ، مثل البهلواني الذي شاهده يوماً في السيرك.
في هذه الرواية إحساسٌ في منتهى التعاسة يلفّ الراوي المعزول الذي يخضع لأزماته ولكشفه المرضي، لكنه لا يتألم إلا لأن الآخرين يقابلونه بطبيعتهم المحدودة والمغلقة: «الناس، مثل الأشياء، منغلقون داخل التزامهم المحزِن والسخيف بأن يكونوا ما هم عليه تحديداً، وليس شيئاً آخر». فـ»الجنون» الذي يتسلّط عليه هو ملَكة نادرة قبل أي شيء، وقيمة إضافية للإدراك والإحساس، تسمح بانتشائنا في الآخر، إنساناً كان أم حيواناً أم جماداً، بتركه يقترب ويتكلم من خلالنا. وسيختبر الراوي هذه الحالة خلال نزهة يختلط فيها بالوحل إلى حد يصبح فيه «كائناً من وحل، منبثق من الأرض، ويشكّل جزءاً لا يتجزّأ منها». وبالتالي، يبدو هذا الجنون ثميناً في نظره، رغم الألم الذي يسبّبه، لأنه ذو طبيعة شعرية كاشفة، ولأنه يمكّننا من تحقيق نفسنا كلياً، ومن تجاوزها، إن تخلّينا فقط عن قُصْرِ نظرنا وانفتحنا فجأةً على كل ما يحيط بنا من كائنات وأشياء: «مَن لم يعرف أبداً هذا الشعور، محكومٌ بأن لا يعرف أبداً غِنى العالم».