السرديات الكبرى في سوق الهزل النقدي!

محمود قرني
عندما يتجرأ ناقد على وصف كتاب بأنه «سردية كبرى»، في حين أنه يعرض حياة بعض الراحلين من الأدباء، اعتماداً على مادة أرشيفية في متناول القاصي والداني، فهو يضعنا، وجهاً لوجه، أمام ضحالة معارفنا أو صفاقة معارفه. ولا أتصور حال قارئي السيد الناقد وهم يتطلعون إلى مصكوكاته، واسترساله في تقريظ عمل، أي عمل، من دون استحضار الدور المنوط بالنقد في مساءلة النص المنقود، ما يعني بالضرورة إهداره القيمة الأخلاقية والوظيفية التي نذر لها طاقاته العقلية.
من المفترض أن النقد هنا لا يقوم بوظيفة إنشائية إنما يصنع مجازات موازية وكاشفة هي المكافئ الوحيد للموهبة التي من المحتَّم أن يكون النقد شريكاً في خلق أسطورتها. ولا يمكن المرء أن يفسر تلك الثقة البادية في إطلاق مصطلحات تنطوي على إشكاليات مُركَّبة في شكل يتناقض كلية مع طبيعتها الملتبسة إلا باعتبارها نوعاً من الهزل. وأذكر هنا أن يحيى حقي نشرَ في مجلة «المجلة» ترجمة لإحدى قصائد الشاعر العربي القديم تأبط شراً عن ترجمة ألمانية لغوته، قدَّمها وقتها الراحل عبد الغفار مكاوي، مؤكداً أن القصيدة «باتت أكثر جلاءً وجمالاً بعد ترجمتها عن الألمانية متجاوزة في ذلك أصلها العربي الصعب والخشن». فكتب محمود شاكر مقالاً نشره في المجلة نفسها بدأه بالسؤال: «أَيَهْزِلُ يحيى حقي أم يَجِدّ؟». فرطُ المفارقة هنا يبدو دافعاً أكيداً للسؤال، ما يعني أننا عندما نتساءل: «أَيَهْزِلُ ناقدُنا أم يَجِدْ؟!»، فنحن لا نفارق الذوق ولا نعادي الصواب.
مصطلح «السرديات الكبرى»؛ هو على نحو ما تعبيرٌ عن سرديات اللا يقين إذا كان يحق لنا بهذه التسمية. وهي تسمية، على ما قال فرانسوا ليوتار، تبدو جارحة للنرجسية الأوروبية كلها، تلك التي كان يرتجيها مفكرٌ كإدوارد سعيد أن تتعامل بالاحترام اللائق مع الآخر، وعلى الأخص الثقافة الشرقية.
السرديات الإنسانية قطعاً لا تبدأ من التاريخ اليوناني وأحلام الديموقراطية الأثينية، وكذلك لا تبدأ مع حقبة الكولونيالية التي حاول فيها المستعمر تعزيزَ أنماطه المعرفية المستقرة عبر امتلاكه أدوات كتابة التاريخ. السرديات الكبرى تبدأ بالطبع قبل ذلك بكثير، وتحديداً عبر نماذج حضارية هي الأسبق تاريخياً، لكنّ انعدام الثقة الذي تشكَّل بين شعوب العالم حول أوهام الحداثة وثورة العقل كان سبباً في تراجع الكثير من المقولات المفرطة في مثاليتها. لذلك فإن نقد ما بعد الحداثة لفكرة السرديات الكبرى كان يعني شيئاً جوهرياً عند فرانسوا ليوتار؛ ألا وهو إسقاط صفة الثبات عن معنى الأشياء؛ ومن ثم إسقاط القداسة عن الأفكار الكبرى التي كانت تمثل تصوراً طوطمياً لدى شعوبٍ أرادت لها الحداثة أن تتحول إلى أنماط وكتل بشرية لا تتحرك غالباً إلا تحت تأثير الدوافع السياسية أو العقائدية. وهذا ميراثٌ نجني ثمارَه المُرَّة عبر دعم ما يسميه جورج سورس «فن إدارة التوحش»، بحيث تبدو محاولات «أفغنة» العالم العربي واحدةً من أعلى تعبيراته فجاجةً.
وكانت الشتائم التي تلقَّاها أنصارُ ما بعد الحداثة تبدو التعبير الأكثر ذراية عن وقوع الحضارة الأوروبية في مرآة ذاتها. وهذا التصور جزء من محتوى الموقف المناهض للحداثة لدى جان بودريار وفرانسوا ليوتار. وبحسب وصف اشبنغلر؛ صاحب أكثر التوقعات التاريخية قسوة، فإن النظرة الأوروبية تجمَّدت عبر مئات السنين عند تصورات كلية احتفى بها عصرُ الأنوار بإسراف مبالغ فيه، بحيث تنامت فكرة العقل الكلي، وتعاظمت تصورات الحقيقة المطلقة باعتبارها نتاجاً منطقياً لسلطة العقل الذي يمثل جوهراً لتلك الحقيقة. وكانت الأفكار التي طرَحتها ما بعد الحداثة واحدة من عوامل الخَلخلَة التي رأت أن تصورات الحداثة هي تصورات ميتافيزيقية انتهت إلى المثالية. أما إنسانُ ما بعد السرديات الكبرى، فلا يمثل ذاتاً تتجوهر بمعزل عن التاريخ، بل يمثل ذاتاً تتشكل بفعل ما يقع عليها من محيطها. ومن ثم لم يعد الإنسان مركزاً للكون، لأنه لم يعد مركزاً لإنتاج المعرفة. وهي تصورات لم تكن جديدة تماماً، لأن فرويد سبق أن أثارها في مقال شهير بعنوان «صعوبة التحليل النفسي»؛ كتبَه عام 1917 حول النرجسية الأوروبية خصوصاً، وقد أعاد النظر من خلاله في معظم المقولات الأساسية لعصر النهضة من خلال ما يسميه بالجرح النرجسي؛ بعد «الإذلال الذي تعرضت له كبرياءُ الإنسانية لثلاث مرات على التوالي من جراء تقدم العلم وتوالي كشوفه».
وتعرَّض المفكر الراحل جورج طرابيشي لتلك القضية عندما أعاد طرح سؤال الثقافة العربية: «لماذا تقدَّم الغربُ ولماذا تأخرنا؟». ومن المؤكد أن الرجل لم يكن يعلم أن لدينا نقاداً وكتاباً يمكنهم أن يصنعوا من النظرية النقدية تلك الفوائض الاصطلاحية المضللة، التي تشبه الأواني المستطرقة.
تغيَّر الغربُ والعالمُ إذاً. فنظرية كوبرنيكوس قَلَبت معادلة الجاذبية الكونية. أما داروين فشكَّك في أحد أصول الميتافيزيقا. وفرويد نفسه أكد أن الإنسان لم يولد من الوعي لكنه ولد من اللاشعور. ولا شك أن هذه الكشوفات الجوهرية هي جزءٌ من الخَلخَلة التي كانت فاضحة لعلم تاريخ الأديان باعتبارها أكبر السرديات في التاريخ الإنساني. وتقويض تلك السلطة لعب دوراً مؤثراً في تلك الإزاحة؛ إضافة إلى الفشل الذي مُنيَت به مقولات الحداثة بعد فشلها في تحقيق ما وعدَت به.
ولا نعرف هل يعلم ناقدنا أن الحقيقة الكلية التي يدافع عنها كجزء من مفهوم السرديات الكبرى باتت توصف في أدبيات ما بعد الحداثة بأنها إرهابية وقمعية، شأن الأفكار كافة التي تعاملت مع البشر كحالات يمكن تنميطها في إطار «التشيؤ» الكاسح الذي أحدثته الرأسمالية وفلسفاتها، بحيث أصبحت فكرة التداول السياسي نفسها محل شك كثيرين بعدما تلاشت الفوارق الجوهرية بين الأطياف السياسية. لا أعرف بالطبع المعنى الذي استهدفه ناقدُنا من اعتباره كِتاباً، سبق أن وصفته في مطلع هذا المقال، «سرديةً كبرى». فهل أراد أن يقول لنا إنه صادر عن حقيقة مطلقة هي نفسها ذات كاتبه؟ أم إنه يحاول إضفاء تلك القداسة المسرفة، في غير محل على كتاب لا يملك إقامة برهان واحد على أنه غير مسبوق في طبيعته الأرشيفية؟ ولأنني لا أمتلك جرأة ناقدنا في التحدث نيابة عن الجموع أو في التحدث نيابة عنه، فسأترك الجواب له ولمن شاء أن يدلنا على سبب وحيد يدفعه، هو أو غيره، إلى التمسح في معاظلات معرفية من هذا النوع، في شكل يتجاوز حدود الهزل.
(الحياة)