السعودية مرام مكّاوي في متاهة «الهوية»

الجسرة الثقافية الالكترنية
*سارة ضاهر
المصدر: الحياة
لم يعد منبر الكاتبة العربية محدوداً أو مقتصِراً على طرح مواضيع محدّدة، ومناقشتها عن بعد. بل ذهبت بعيداً في التجربة الروائية لترصد نفسها، الرجل، والمجتمع. وإذا ما كان الجسد من المواضيع المحرّمة، والتي تعتبر «تابو» في الثقافة العربية. فقد شكّلت جرأة طرحه ومقاربته من الأديبات، أكثر من مؤشر على الانفتاح الاجتماعي، التبادل الحضاري الثقافي، والتطوّر الروائي الفني.
من أنا؟ من أكون فعلاً؟ ما علتي؟ لماذا أشعر بأنّ جسدي في وادٍ آخر؟ تلك هي أسئلة تراود بطل الرواية الأولى للكاتبة السعودية مرام مكّاوي «قاب قوسين» (الدار العربية للعلوم ناشرون). فيبدو الحزن حاضراً في هذه الرواية، وربما ضروريّاً. إنه حزن وجودي يدفع إلى التفاعل مع ألم الآخر ومواساته في رحلة مرضه حتى اكتشاف سُبل علاجه. حزن يحرص على النزعة الإنسانيّة، للسمو بها إلى ما لا يستطيع أن يسمو إليه المجتمع المتعصّب. وبذلك، تحوّل الكاتبة قضيّة خاصّة وإنسانيّة، إلى قضية رأي عام، كأنها تحاول بعثرة مجتمع لكي تعيد صياغته من جديد. إنها تفصح عن إنسانيّة الراوية التي تضفي شأنها الإيديولوجي على النص الفني. وإن كانت «فنيّة» الكتابة تدخل في قلب الأحداث «سأكتب كتاباً أحكي فيه كل شيء، حتى لو نبذني الجميع بعد قراءته» لتؤول الرواية إلى ذاتها، كما هو الأمر في أكثر من رواية حديثة.
تشكّل «جدّة» عالم هذه الرواية، وهو عالم يتحول بكل مكوناته في زمن انفتاحه على الخارج، علميّاً واجتماعياً وحضارياً. وليست المرأة سوى جزء من هذا العالم، تطرح سؤال هويتها على مستوى جسدها وما يعنيه من شعور حقيقي بالانتماء، سواء إلى عالم الرجل أو المرأة، وما يحيط به من تقاليد تحتفل بخصوصية كلّ منهما.
ومن خلال أسطر قليلة، تطرح الروائيّة مشكلة مدينة جدّة، هذه المدينة التي «تمددت طولياً خلال السنوات الثلاثين الماضية، والمحاصرة بالأحياء العشوائية، تعاني حالات متقدمة من سرطان الطرق سببه الكثافة السكانية العالية والهجرة غير المنتظمة وسوء التخطيط».
لكنّ مشاكل جدّة، على ما يظهر من خلال مستويات السرد المختلفة، لا تعاني فقط من هذه المشكلات الآنفة الذكر. بل هي مشكلة مجتمع ذكوري، لا يمكّن المرأة من الدخول إلى الحياة إلا بعباءة الرجل، كما حصل مع سارة، التي تحوّلت إلى «ساري». وكذلك من خلال حضور الأنثى الضعيف الذي اقتصر على أمل وسارة مقابل حضور كل من قصي وحامد ومروان وسامر وعامر القوي.
في هذه الرواية، كان الجسد اللاعب الأقوى والبطل الأوحد. جسد فيه عقاب، مصيبة ولعنة إلى أن تحوّل إلى نعمة بعدما دخل عالم الرجال. جسد اجتماعي، مموّه التفاصيل، مختلّ الحركة. صاحب الجسد، لا يدري ماذا يفعل بجسده، هل يُبقي سراً مسألة تشخيص جنسه الخاطئ منذ الولادة، وعلى مدى عشرين عاماً، أم يبوح بحقيقته؟ وماذا ستكون النتيجة؟ هل يصمد الحبّ؟ هل تستمرّ الصداقة؟ وقبلهما ماذا عن الأم، التي كانت هواجس العادات والتقاليد، أهم لديها من معاناة ابنتها «سارة» وآلامها وإحساسها العارم بالضياع منذ طفولتها. تريد معرفة ما إذا كانت ولداً أو بنتاً؟
الهروب
الجميع هوى عندما أقبل الماضي يهدر كالموج، على رغم محاولات البطل ساري الهروب منه. أكثر من خمس عشرة سنة وهو يحاول الهرب. ولكن كيف يهرب المرء من ماضيه، كيف يهرب من نفسه إليها؟ لم يرحمه الناس، بل احتقروه، وتوجسوا خيفة منه على أطفالهم. اعتبروه غريباً ومختلفاً. كيف يقبلون به رجلاً بعدما كان امرأة ؟ أصبح رجلاً بعد أن أثبت العلم أنّ «أنوثته» لم تكن سوى نتيجة خطأ في تشخيص جنس المولود، بحيث كان يحتاج إلى عملية فور ولادته. ولكن جهل الأهل حال دون ذلك. وجاءت سارة إلى هذا العالم، وعاشت لمدّة عشرين سنة. وها هي اليوم تدرك حقيقة أحسّت بها طويلاً. حقيقة جعلتها تبكي كثيرا في تلك الليلة كما لم تبك من قبل. كانت تدرك أنها قاب قوسين أو أدنى من التعرّف إلى نفسها، ونزع الأقنعة التي تخفي معالمها الحقيقية. ردّدت بينها وبين نفسها: أنا رجل. وللرجل مزايا كثيرة في بلاد لا تؤمن إلا بالنسخ المتشابهة وتعتبر أي خروج عن النسق انتهاكاً شديداً.
من خلال هذه القضية تبني «مكّاوي» روايتها بمنظور نقدي للمجتمع، باعتبار ردود فعل المواطنين السعوديين أثراً لثقافة ذكورية بنت تاريخها على مفهوم العيب والحرام.
هكذا، وحين تنتهي شخصية سارة الدلاليّة النقدية، تتحوّل إلى «ساري» كنموذج لدخول الحياة من خلال الرجل، وهي الوسيلة الوحيدة في تلك المجتمعات. حتى لا يبقى من أنوثة «ساري» سوى الأنثى الكاتبة عنه، التي تنتج الواقع وثقافته، أي الرواية. الرواية التي تُفصح عن دلالات الغياب النسائي في الحياة الاجتماعيّة.
وبذلك يلحظ القارئ أنّ العلاقة بين «ساري» و«سارة» ليست مجرّد لعبة مرآتية. بل هي تعبير، تقني، عن منظور الرواية الساعي، في ما تبيّنه سياقات السرد المتعدّدة، إلى توليد دلالات القمع الوثيق الصلة بالكلام عن العيب والتقاليد.
مرايا الذات
ففي هذه الرواية توضع الذات الأنثى والذكر أمام مرايا ذاتها، لا لتعكسها، بل لتتعرف عليها وذلك في حوار نقدي يجري بين شخصية الرواية المزدوجة «سارة/ساري» ما يجعل هذه الذات المختلطة تتمظهر كوضعية اجتماعية في شخصيتين هما واحدة في الأساس. تشتغل هاتان الشخصيتان، وبالعلاقات في ما بينهما، على إنتاج وعي معرفي مناقض للوعي السائد الرافض حتى لفكرة المرض، وهو هنا « خلل في الهرمونات».
ولعل اللافت في هذه الرواية هو أن سؤال الهوية المطروح على مستوى الجسد يتمثل في «سارة»، المرأة السعوديّة، التي لا تمتلك هويتها على مستوى جسدها، كونها لا تنتمي بيولوجياً إلى عالم النساء، وهي إلى ذلك رجل تمّ اكتشافه بعد عشرين سنة، ليبقى بلا هوية على مستوى انتمائه إلى مجتمع لا يعترف به كإنسان.
هذه الكتابات قفزت فجأة بالسرد النسائي من المستوى الخارجي للسرد إلى الداخلي المكثف، المتعدّد الرموز والإيحاءات. وكان لها أحياناً وقع الفضيحة والعيب في تعبيرها عن الجسد وعن علاقات الحب. وكان من نتيجة ذلك، أن تتحدث البطلة «سارة» بلسان البطل «ساري»، لأنه يقول ما تعجز عن قوله هي بصفتها امرأة.
وربما لهذا السبب، تبدأ الرواية على المستوى النصي من حيث تنتهي على المستوى الوقائعي، أي أن الكاتبة تصطنع لها مساراً دائرياً، وتروح تروي المقدمات التي آلت إلى هذه البداية/ النهاية، وذلك على شكل وحدات سردية متعاقبة يتناوب على السرد فيها راوٍ عليم بصيغة الزمن الحاضر؛ فيروي وقائع معينة في الزمان والمكان، وصوت بطل الرواية الذي يبدأ يسرد بصيغة المخاطب متذكراً ما حصل، فتتعاقب الوقائع والذكريات وتتجاور لتشكل أساس الحكاية. فتظهر شخصيّة «سارة»، وإن روت، مجرّد حالة من الماضي.
كشفت رواية «قاب قوسين» عن موهبة حكائية متميّزة وحقيقيّة لدى مرام مكاوي، تجذب القارئ حتى السطر الأخير، في بنية سردية تقوم على محاولة تغيير مفاهيم اجتماعية تحمل الكثير من الظلم واللاإنسانيّة. بنية مفعمة بخطاب داخلي. فثمة انتقال ذكي بين الارتهان لعادات المجتمع وأفكاره المعدّة مسبقاً، والبحث عن هوية حقيقيّة حرّة، لم يتم العثور عليها، مع الأسف، إلا في الغرب. فالغرب هو الذي يكشف مرض «سارة»، وهو، أيضاً، الذي يقبل به زوجاً وأباً لطفلته التي أطلق عليها اسم أمل، بعدما تحوّل إلى «ساري». فهل تحمل هذه الطفلة فعلا شيئاً من الأمل في عالم مغرق في أفكاره البالية؟