«السيد الرئيس» لأستورياس.. غنائيات الاستبداد

الجسرة الثقافية الالكترونية
عبير اسبر
في ترجمة جديدة لجمال الجلاصي، تعيد «منشورات الجمل» إصدار رواية «السيد الرئيس» للكاتب الغواتيمالي الكبير ميجال أنخل استورياس، التي كتبها العام 1946 والتي مهدت الطريق لما عرف فيما بعد بـ «الواقعية السحرية». رواية سابقة لأوانها لتفترق عن سياق الأدب الكلاسيكي الذي عرفته أميركا اللاتينية في تلك الفترة.
بلغة تتلوّى تحت وقع أحاسيس ملغمطة كوجوه مهرّجي السلطان، وشخصيات «عوام» مرسومة بانفلاتات مخيّلة من ضوء ولون، يكتب ميجال أنخل استورياس روايته «السيد الرئيس» مفسحاً مجالاً واسعاً للسوريالية الأوروبية كي تحضر بقوة في نصه الهاذي، ومبشّراً بقوة بقدوم الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، ممهداً الطريق لنصوص كبرى مثل خريف البطريرك لغابريال غارسيا ماركيز، ولكتاب آخّاذ مثل حفـــلة التيس لماريو بارغاس يوسا.
في «السيد الرئيس» يكتب استورياس نصاً متدفقاً، يبدو بعيداً في تلاحقه وإيقاعه اللاهث عن تقليدية السرد المنطقي بذرواته المتعارف عليها، وحبكاته الآمنة، التي لا تستطيع أن تصل بعدها «كقارئ» إلى نص مفهوم، إذ يكتب الروائي نصاً غير منتهٍ، مرهق ومتشظٍ، لا يمكن لراوٍ أن يركن إلى قدرته مهما كانت، على سرد الأحداث، أو روي الحكاية، يكتب استورياس في السيد الرئيس ما يلي:
«يرقص الأزواج بوزن ودون وزن، بحركات حيوانات برأسين. رجل ملطخ بالأصباغ، كامرأة يعزف البيانو. ينقض من فمه ومن البيان وبعض العاج .»أنا مغناج، مغناج وحساس». يجيب من يسأله عن سبب زينته، ثم يضيف ليكمل الصورة: «أصدقائي يدعوني بيبي، والشبان فيوليت. أرتدي قميصاً غير محتشم لأظهر نهديَّ الفتيين».
شطط مخيلة
بتفتت معانيها وانفلات سردها، ولا تقليدية رسم شخوصها، شكلت رواية «السيد الرئيس» حالة أدبية وحدها، فالكتاب حافل بعبثية فيها الكثير من غنائيات مضللة، تسحرك بوصول المخيلة اللغوية حتى تلك الحواف المغرقة في تطرفها، حيث لا بدّ أن نشر الكتاب في ذلك الزمن اللامع شعرياً، غير التجريبي «روائياً» على الأقل، قد حمل للعصر قيمة مضاعفة بسبب ثوريّته وجدّته، فشعرية اللغة هنا غير بعيدة عن إرث أزهار الشر البودليرية، ومزامنتها للبروتونية وللرامبوية والأبولينيرية التي انغمست تماماً بشطط مخيلتها، نحو حالة لا عقلانية قد تستطيع تفسير جنون الحرب، ولا قصدية أفعاله المجنونة المنسحبة من أي منطق، غير منطق العبث والسخط والانهيارات العقلية التي أفرزتها الحرب العالمية الأولى، حيث تماهت حالة العبث الواقعية وفظاظتها مع الحالة السردية/الشعرية في أعمال لويس أراغون وأصحابه، ووجدت مكانها في حاضنتهم الفكرية التنظيرية.
استورياس المنفي في أورربا آنذاك، تلاقح مع تلك التجارب بشكل فعلي ومباشر، فبسبب طاغية أميركي لاتيني آخر سطا على الحكم في بلده «غواتيمالا»، أتت رواية السيد الرئيس «تقدمية» بشكل أصيل، أتى العمل من إرث شرب السوريالية من منبعها، ومن عصرها الذي عاشه الكاتب كاملاً بفرنسيته، وبمماحكات منظّريه في مقاهي باريس، وبألوان السماء الاسبانية «البيكاسوية « الذي عاش فيها بعد نفيه من بلد وقع بثقله تحت حكم ديكتاتور مهوس، مهووس كما يجدر بديكتاتور أن يكون.
من عناوين فصول الرواية نتلمّس مزاجها وأين ستقودنا لغتها، سنقرأ عن «غفران اسقفي، مناوبة الموت، زواج في آخر رمق، نور من أجل العميان، موت الناموسة، رأس الجنرال، محرّك العرائس في باب الرحمان، القبر الحي، أصوات في الظل، حراسة من جليد، العين البلورية». سنقرأ عن شخصيات بأسماء أشد غرائبية من الحكاية ذاتها «الناموسة، المعتوه، الأعرج».
الروائي في منفاه
يحمل ميجال انخل استورياس كثيراً من الصفات «المبجلة»، فبالاضافة إلى كونه روائياً حاز جائزة نوبل، في أولى تجاربها مع كاتب من أميركا اللاتينية، فهو كذلك شاعر وصحافي ودبلوماسي، يحمل جنسية دولة غائمة الجغرافيا، موسيقية الوقع تسمّى بكل دلع، غواتيمالا، غواتيمالا التي عاش استورياس معظم حياته خارجها بسبب معارضته الفجة للطاغية مانويل استرادا كابريرا الذي حكم غواتيمالا عشرين عاماً، من قهر وموت ومنافٍ، فكانت تلك السنوات اللعينة كافية لتحريض مخيلته الأدبية، ولتجسيد تلك التجربة المريرة لغواتيمالا تحت حكم ذاك الطاغية روائياً، فتركت تجربة البلد السياسية، بقوة أفعالها العجائبية، وبعجز العقل عن مقاربة شططها وتطرفها، بصمتها على الروح النصـية للرواية، فكتب استورياس عن «السيد الرئيس» مقارباً حدود اللامعقول واللامنـــطق واللاإنساني حكاية بلده الغائب. فنجح بألا نغادر النص إلا مدموغين بها، ومحمّلين بالكم الكافي من الاختناق والغمّ.
المصدر: السفير