السينما الوثائقية أساليب السرد ما بين الواقعي والخيالي

الجسرة الثقافية الالكترونية – القدس العربي

الواقع دائماً هو المجال الخصب للسينما، ولطالما تناولته في موضوعاتها، حتى الموضوعات الأكثر خيالاً، تعد في النهاية انعكاساً لهذا الواقع. والفن السينمائي والعمل الفني عموماً، مهما استمد مفرداته من الواقع، إلا أنه لا يقدمه كما هو، ولا يستطيع، فقط .. يقدم تصورات حول هذا الواقع، أو يصبح العمل إيهاماً بهذا الواقع وتأويلاً له، وفق وجهة نظر صانع الفيلم. وما بين الإيهام بالحقيقة والخيال تنوع الفيلم إلى شكلين هما الوثائقي والروائي، حيث ظنت المدارس النقدية الكلاسيكية انفصالهما، إلا أن التجارب الفنية كانت دائماً أسبق، وأكدت أكثر من مرّة أنه انفصال وهمي، تفرضه النظريات أكثر من كونة تجربة إبداعية، تخرج دوماً عن إطار أية تنظيرات. فالمسألة إذن تتوقف على الطرق المختلفة في سرد الفيلم، أو السمات الأسلوبية التي تميزه … كآليات السرد، إضافة إلى طريقة البناء الفيلمي، والمتمثلة في وجهة نظر السارد/الكاميرا، الزوايا وأحجام اللقطات، وأخيراً .. المونتاج. فالأمر في النهاية نهج أسلوبي، يتبعه صانع الفيلم، ليؤكد من خلاله وجهة نظره حول موضوعه، والرسالة التي يريد إيصالها إلى المشاهدين.

الروائي والوثائقي

بداية .. ينفي الباحث الفرنسي «لاري بورتيس» في كتابه «السينما الوثائقية والوثائق في السينما» وجود فوارق أو حدود فاصلة بين الوثائقي والروائي، فالمواقف الطبيعية التي تم تصويرها في فيلم وثائقي أو روائي قد تكون واحدة، ولا يختلف إلا في شكل التأطير والمدة وموقعها، وترتيبها في البناء الفيلمي من خلال المونتاج، فالاختلاف في الشكل دون الجوهر. فالأمر إذن هو أسلوب من أساليب الخطاب السردي من خلال الصورة والصوت، أي من خلال العلامات المتعارف عليها لدى المُشاهِد. والبناء الدرامي هو الذي يقتضي اعتماد الأسلوب الأمثل من وجهة نظر صانع الفيلم.

الواقع الفيلمي

من المفردات التي يستمدها الشكل الروائي من الوثائقي (الوثيقة) التي يُعيد استخدامها من خلال أسلوب بناء الفيلم، سواء من خلال استخدامها كما هي، كصورة أرشيفية، أو إعادة تمثيل هذه الصورة. أو الإيحاء بكونها وثيقة (كأفلام إيزنشتين .. المدرعة بوتمكن/أكتوبر/ألكسندر نفسكي).
أو تعليق أحد الشهود على حادث ما (مقابلات أوليفر ستون للشهود في مقتل كنيدي، وقبله فرانشيسكو روزي في قضية ماتي).
ولكن .. هناك ما يُسمى بالواقع الفيلمي، الذي يحول كل ما هو واقعي إلى إيهام بهذا الواقع، حتى على مستوى الوثيقة/اللقطة المستمدة من الواقع مباشرة. فالوثيقة .. هي المادة الخام المصورة، والتي تشير إلى واقع أو حدث ما، في زمن محدد ومكان محدد، وهي بذلك لا تدل إلا على نفسها، والواقع الذي استنسخته. كل ذلك بعيداً عن استخدامها أو أفلمتها، أي .. تحويلها إلى فيلم يستخدم هذه الوثيقة، أو يضمها إلى عدة وثائق أخرى للتعبير عن موقف أو رسالة، تعتمد على رؤية ذاتية لصاحب الفيلم، وتحليلها وتفسيرها للكشف عن مغزى ما، هنا .. تتحول الوثيقة إلى فيلم. (راجع .. سيد سعيد.حدود الموضوعية والذاتية بين الوثيقة والحقيقة. مجلة الجزيرة، عدد2، أبريل/يونيو 2009). وبالعودة إلى مثال «قضية ماتي» لفرانشيسكو روزي، نجده .. لجأ إلى المقابلات الشخصية مع أشخاص حقيقيين على صلة بالحدث، والذي صاغه الفيلم على شكل تحقيق سينمائي، يستقصي فيه وقائع مقتل «ماتي» رئيس شركة النفط الإيطالية، على خلفية صراعات مع الاحتكارات النفطية العالمية، إلى درجة أن روزي نفسه يظهر في بداية ونهاية الفيلم، في مقابلاته للعديد من الشخصيات الحقيقية لاستكمال المعلومات حول القضية.

راشمون وتفتيت الحقيقة

وربما توضح الأمر أكثر تجربة فيلم «راشمون» لكيراساوا، الذي عرض الحقيقة بأكثر من وجه، حتى أنه فتت مفهومها، لأن وجهة النظر هنا كانت أساس عملية السرد، والتي من خلالها جاء إنتاج أو إعادة الحدث أكثر من مرّة، وكأن الأمر أشبه بالتوثيق.
وهو هنا ينفي تماماً المصداقية عن الحدث. فأين الحقيقة؟ ومن أي زاوية سننظر لها؟! وهو هنا يتوسل بأساليب سرد الفيلم الوثائقي … السرد الموهِم بالحقيقة، من خلال أصحاب الواقعة والشاهد عليها .. الزوج/الوزجة/القاتل/الراعي. أي أنه انتهج أسلوب التوثيق، وأعاد البناء السردي للحادثة، التي أصبح وقوعها الفعلي غير ذي أهمية، فهو وإن كان يوهم بالحقيقة، إلا أنه أخذ هذا الأسلوب لهدمها تماماً!

تأويل الواقع وإنتاج المعنى

فكل من المخرج الروائي والوثائقي يلجا إلى قواعد مشتركة، خاصة في المونتاج، بحثاً عن صياغة وإنتاج المعنى للقطات التي تم تصويرها مسبقاً. ليصبح السياق هو المصدر الحقيقي للمعنى.
فالأمر في النهاية تأويل للواقع، ما دام أصبح مادة فيلمية. أي .. عملية إدراك الواقع. فالحدود بين الروائي والوثائقي حدود إجرائية ليس إلا. فكل وثائقي له نفس روائي هو الحكي، ولكل روائي نفس وثائقي هو الشخصيات والزمان والمكان الذي لا يأتي من عدم. فالأمر لا يقتصر على الحقيقي والخيالي، فكلاهما لا ينسخ الواقع كما هو، وإنما يعمل على إعادة صياغته في عمل فني يؤثر تأثيراً حسياً وعقلياً، يؤدي إلى محاولة فهم العالم بصورة أفضل. (راجع .. عبد الكريم قابوس. وثائقي أم روائي. الجزيرة عدد17، آذار/مارس 2013).

الواقعية الجديدة

ففي فيلم الأرض تهتز .. عرض فيسكونتي قصة حياة عائلة صقلية تمتهن صيد السمك، وقام أفراد العائلة بأداء أدوارهم الحقيقية على الشاشة، فلم يكن هناك إدعاء أو تظاهر بالتمثيل المحترف، وهو ما نمّى إحساساً قوياً بالواقعية، دون الاحتكام إلى جودة أو رداءة التمثيل.
ولو أردنا النظر إلى التوافق والتماثل، لوجدنا أن الواقعية الجديدة مدينة للأفلام الإخبارية التي واكبت الحرب العالمية الثانية. (راجع .. دونالد ستابلز، السينما الأمريكية. ترجمة/نور الدين الزراري. القاهرة، دار المعارف 1981).
كما يلحظ ذلك أيضاً في فيلم «ألمانيا في العام صفر» لروسيلليني .. حيث استخدم الأسلوب الوثائقي في البداية لاستعراض دمار مدينة برلين. وهو ما أدى باتجاه السينما الروائية في نطاق أوسع إلى معالجة الموضوعات الحقيقية، عن طريق إعادة دقيقة للتمثيل، تأتي في الغالب قريبة من الأفلام الوثائقية، وفي هذا الاتجاه عمل عدد كبير من المخرجين، منهم .. كوستا جافراس في z عام 1968، والانحراف، وفرانشيسكو روزي في قضية ماتي، ولاكي لوتشيانو.

الموجة الجديدة

من ناحية أخرى … نجد أن الموجة الجديدة، التي انتهجت أسلوب السينما الوثائقية، خط القصة الوثائقية والتحقيق الصحفي، الذي سيكون له أبلغ الأثر بعد ذلك على أسلوب سرد الفيلم الروائي، حتى ولو بطريق غير مباشر .. كما في فيلم «راعي بقر منتصف الليل» حيث يراه البعض بمثابة معالجة تسجيلية لنيويورك بالطريقة نفسها التي عالجت بها الموجة الجديدة باريس. بذلك … نجد أن الروائي قد توسل بالنهج التسجيلي مع قيام الواقعية الجديدة في إيطاليا، حيث تم نقل الحدث من الاستديو إلى الشارع والأماكن الواقعية .. أعمال فيسكونتي كروكو وإخوته. كذلك العمل مع ممثلين غير محترفين .. كبطل سارق الدراجة لدي سيكا.
وهناك العديد من الأعمال .. كليل وضباب وهيروشيما حبيبي لـ آلان رينيه، الذي لم يكتف بإدخال لقطات توثيقية للحرب كخلفية للأحداث مثلاً، لكنه جعل من أسلوب التوثيق هذا بناء عاماً لدراما الفيلم، فهذه الأحداث الحقيقية ألقت بظلها على تكوين وسلوك وعلاقات الشخصيات، أكثر منها خلفية باهتة. فهناك واقع كئيب يطالعنا دوماً، حتى لو أصبحت شخصيات الفيلم في حجرة بعيدة مغلقة.

وهم الموضوعية

إلا أن الملفت أن النهج الوثائقي قد استخدم في أفلام مصنوعة بالكامل/خيالية، دون الاعتماد على لقطات أرشيفية حقيقية، أو إعادة إنتاج لحدث ما، وهو ما ينفي الموضوعية التي يتميز بها شكل فيلمي عن آخر … ويتضح ذلك في فيلم The War Game لـ Peter Watkins عام 1965، والذي تخيّل إلقاء قنبلة ذرية على مدينة لندن. فالمشاهد واللقطات كلها مصنوعة، ولكن النهج والأسلوب التوثيقي الذي تعامل به المخرج مع موضوعه، أدى للإحساس بأنها مشاهد ولقطات حقيقية. وهو ما يؤكد كما سبق … أن أي لقطة لا يمكن أن تكون قائمة بذاتها، لكنها تتحدد بوساطة عدد من العناصر، التي يختارها صانع الفيلم، ويريد الإيحاء بها، والتواصل مع الآخر/المُشاهد من خلال هذا الأسلوب أو ذاك. فالتنوع الجمالي هنا لا يقتصر على شكل وثائقي أو روائي، بل يصبح سمة فيلمية أصيلة. بمعنى … أن رؤية صانع الفيلم هي التي تفرض المنهج الذي سيحقق من خلاله رؤيته هذه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى