الشاعر الفلسطيني حسن أبودية ينكأ الجراح: قراءة في نصوص «ثلاثية الغياب»

الجسرة الثقافية الالكترونية

هالة ابو ليل #

عن دار فضاءات للنشر واالتوزيع، جاءت نصوص «ثلاثية الغياب» للشاعر حسن أبو دية، أنيقة ومكثفة بالنصوص الجميلة، التي لا تخلو من مفردات لاذعة. مؤلمة نوعاً ما على شاكلة ماجاء على لسانه قائلا:
(لأنك علمتني أن الفدائي لا يتقاعد،وأن الثائر لايهدأ،هو بين مساحتين من الحزن يحيا،
عين على وطن يئن من العدا. واخرى على شعب تنهشه أفاعي الغربة والمعاناة في المنافي )…… (صفحة 75) في نص شجي يرسله لوالده الذي كان يبحث عن الوطن في الوطن كما وصفه في نفس النص.
….الجرح أن تعض على شفتك ألما عندما يغرس أشقاؤك الملح في جرحك وقد نالت منك رصاصة أحدهم..
الغربة مقهى مكتظ باللا أحد…… الغربة أن تطوف عينيك في اللامرئي، بحثا عن وجه ودود دون جدوى. وهي ذات تجربة حقيقية لغربة ارتضاها الشاعر بنفسه، أو فرضت عليه، ولكن لا أحد يرضى بالغربة إلاّ إن كانت تسكنه الوحدة
لاتنتظر مطراً من أبناء جلدتك فقد نزعوا عنهم جلودهم صفحة (50)

فمن هو الشاعر والقاص حسن أبو دية، وكيف لنا أن نعرفه إذا لم نقرؤه
وهذا ماحدث…
ففي كتابه المعنون بنصوص ثلاثية العذاب لنا هذه الجولة في أعماق شاعرنا المسكون
بروح ايلون، يالو، ارض الأيائل، الوطن الذي يسكننا ولا نسكنه، لغربة امتدت في شرايين الروح، والتصقت بالأرض، بحبلها السري، لتأخذنا اليها كلما اشتقنا لها فمالنا سوى ذاكرة حيّة. مشتعلة بالحنين والتوق للعودة اليه محرر من كل الزيف والقهر الذي سكنه ستون عاما
إنه البوح الذي يوجعنا ويريحنا، يجعلنا اكثر تطهرا وشفافية.
شاعر يغني للارض، وللشجر، وللحب، يحدق في رصيف مجاور، قد يكلمه ويثرثر معه ويبوح له بالاسرار فالرصيف كائن محايد لايضحك عليك ولا يضحك بوجهك. ليس كائنا منافقا لكي يمنحك ابتسامة لايريدها
لذا يكثر الشاعر حواره ونشيجه يعلو مع رصيفه. ساردا له قصة الوجع وراء لقمة العيش
(قسط الأولاد،أجرة البيت، مصروف البيت) بصمت معتق. لا يسمعه إلاّ من عاش الوجع وتألم
فالبحث عن لقمة العيش للصغار. سؤال صعب ليس من ضمنه مفردات كالجوع والحرمان
انما هي رحمة أب يتخلى عن وجوده بينهم ويتنازل عن رؤيتهم يكبرون امامه لكي يراهم في أحسن حال مثل عصفور يمضغ اللقمة ليضعها في فم فرخه فرحا، بالحب الذي يوصفه بالخوارق التي تجعل منه نبياً يحيل بعصاه رائحة فنجان القهوة الى معزوفة وحبات رمل
…الى أبيات قصيدة (صفحة 17 )
ففي البلاد كلها، جوع، ولكن يكمن الفرق في ذات الشاعر المرهفة التي صاغها في نشيج الغربة التي تأكل من عمره ولا يأكل منها الأ نفاد العمر بعيدا عن صغاره. واصدقائه في المخيم المبدعين.. خلاصة ما تمخض عنه الواقع الأليم، خرجوا من لاشيء ليصبحوا كل شيء فهو صديق لاينسى اصدقاءه فيرسل لهم محبته على صفحات الثلاثية أما الرصيف فله حكاية معه
يقول في نصوصه الفريدة مع الرصيف صفحة (30)

أصحو في الرصيف لأجد أرصفة تصحو في اعماقي تمتد وتمتد
تاركا أياك في لجة الصمت تجتر صمتا أقسى وأمر لتعيد قراءتها من جديد
فما هذا الشيء العجيب..
قد يفاجئك ذلك الذي نسميه بتأثر مابعد القراءة فهو مثلا يدعوك لإعادة القراءة مجددا لكي تظل في أجواءه المشحونة بمحاكمة الذات
ماذا فعلت بنا الغربة… أين الوطن… لماذا نسيناه..
رغم أن ماقاله مالكوم إكس يوما فيما معناه «يغفل كثير من الناس أن كتابا واحدا، قد يغير من حياة إنسان، ولا أقول أن تأثيره، قد غيرني، بقدر ما أنعش ذاكرتي المنسية عن تفاصيل الوجع الفلسطيني والمعيشة الضنك التي عاشها اباؤنا،ومازلنا نعيشها في دول الشتات، والجيتو الفلسطيني في المدن العربية والذي فرضوه علينا بحجة أن وجوده عودة للوطن وطال الوقت ولم يعد الوطن ولكن ما استعمرنا بعدها سوى الوحدة والاغتراب… استعمر ارواحنا وسكن.
… في المجموعة الصغيرة (110 صفحات فقط ) من القطع المتوسط والتي تستطيع ان تنهيها في سهرة واحدة وتمضي… مدعيا أنك قرات كتابا جيدا….فتستريح وتنام
ولكني أحذرك من جديد، فثمة شيء حدث لك..
لم تعد نفسك
لن تستطيع ان تعود للنوم
وأن تلك الراحة التي امتلكتك لدقائق.. إنما هي هدنة قصيرة

ستعود
ستعود حتما أليه
فهو كتاب تفوح من قصائده روائح الميرمية والزعتر البلدي..
ورائحة المحراث والبيدر
… يحمل بداخله تذكارات من الوطن- الحلم…
دالية تتعرش فوق مخيمه المسكون بالأمل.
مفتاح البيت الأول المعلق في الجيد. لحين خروج الوطن من قمقمه..
فمن اسكن الوطن في قمم، ونسيه
فانساه الله الطريق اليه
ولكن الزمن سيعيد لنا الوطن.. ولحين عودته سيظل الوطن معشعشا ومورقا أخضر في القلب
لن يشيخ
ولن يموت
ولن يندثر
ولأن الشاعر من طين ارضه الطيبة لم ينسَ ان يهدي نصوصه الثلاثة الأولى.. لزوجته الوفية.. «كوثرته» التي هي ينبوع ماء ينثر الخصب والنماء…. لاسرة بعيدة هي نموذج للأسر الفلسطينية التي تحارب طواحين التجهيل بالعلم.. وتفتح كوة تطل منها على الوطن الأكبر
شاعر..أبوي يحترم العائلة والأسرة فيعتذر لصغيرته حنين، لانه نسي يوم تذكر.. أن
الغربة خطفت من عمره أكثر فيوصم النسيان- الذي اعتدناه- كفعل تعويضي عن اجترار الألم- لكي نعيش بالغربة (زومبي) متحرك بلا مشاعر يصفه بخطيئة… لانه نسي ميلاد طفلته الصغيرة، فما أنظف خطاياك ايها الشاعر الأبوي المرهف
ويمضي الشاعر…
نحو غربته وحيدا الاّ من حلم
يغمس الالم بلقمة البوح ويطالبنا، أن نبتسم
هل طالبنا فعلا بالابتسام ؟!
سنبتسم ! ها هو يطالبنا بالكلمات عارية الأ من معانيها
وموت آخر تستدعيه الروح التي لا تكتمل

يريد أن يجرد الكلمات من أوراق التغليف البراقة، ومن كل الإستعارات والكنايات والتشبيهات ولكنه يقف على مراميها ويصمت.. فالكلام في طقوس الخيانة خيانة أخرى
لا لتتطهر
مناديا الموت
« ايها الموت، لا تأت الآن، فمازال في العمر قصيدة لم اقلها
….ولكنه قالها
فالنقش في الذاكرة قديم… والجرح مازال ينزف حتى الآن
ففي اخوة يوسف الصديق ما يعيد سيرة القهر والخيانة… قائلين:
ستاخذه بعض السيارة لخيمة،
وتذبل الأيام ذاكرته
ناسين انه اورث اولاده بكل التفاصيل
ليسرجوا كل الأحصنة
ويبدؤوا الرحيل
الى اين؟
عائدين
عائدين.. ونكررها هنا لكل االخائفين
من الوطن البديل
فقد اورثونا قبل ان يموتوا احلاما أكبر
من ان تقبل
بوطن بديل

ولحين تأتي النصوص التي لم يقلها الشاعر
بدون استعارات
ستكون
الذاكرة/ الرصيف/ الغربة.
الثلاثية المريرة لشاعر يجتر ذكرياته اينما حل ورحل..
ذاكرة
تستنهض طائر فينيقها من الرفات لكي تعيد سيرة الصيرورة الاولى
ذاكرة تحرس الوطن من الضياع
من آفة النسيان
من الخونة
من الأخوة الأعداء
ورصيف يمتد ويمتد مصدرا البوح.. ليخفف من وقع اللجوء،
وغربة المنافي.. والشتات لروح أصيلة تنزع للحرية، وتأبى النسيان
في ثلاثية ذات إحالة نفسية، ضمنها الشاعر في نصوصه باعتبارها
فعل تحريض للبقاء على قيد… ارتشاف الذاكرة
على قيد حب- نسغ الحياة الأول-
على قيد مقهى.. وارتشاف وحدة وغياب عن كتظاظ باللا أحد
فلا حب ولا مقهى ولا غربة
وما بينهما
تستطيع أن تحرسه من النسيان.
أو
تحرضه على النسيان)
ثلاثية العذاب التي تنتظر البوح
لتكتمل

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى