الشّعر العربي المعاصر… دروب الخراب: هل من اتجاهات شعرية معاصرة؟

الجسرة الثقافية الالكترونية
د.رامي ابو شهاب
في نهاية العقد السّابع من القرن العشرين، أصدر العلّامة الدكتور إحسان عباس كتاباً نقدياً هاماً بعنوان «اتجاهات الشعر العربي المعاصر». الكتاب محاولة عميقة، ومتبصّرة من ناقد استثنائي لقراءة الشّعر العربي في ضوء تحوّلات ومتغيرات المنطقة العربية، ولاسيما بعد انطواء الحقبة الاستعمارية، وبروز منظومة الدّول العربية المستقلة، وارتهانها لأفق الاكتشافات الأولى للذات التي دخلت مرحلة غير مكتملة من الوعي بحدودها، وثقافتها، إذ بدا الشّعر العربي في منتصف القرن العشرين باحثاً عن ملامحه، أو لنقل عن مراكز للتعبير عما يطرأ من تداعيات الدّهشة الأولى للأنا، وهي تتلمسُ ما لم تعهده، أو تختبره، وهنا يشهر إحسان عباس منهجه، ومقاربته بوصفها محاولة لتلمس روح الشعر اتكاءً على البعدين: الفكري، والنفسي، مفارقاً ما ألف من اتجاهات تعمد إلى السّياسي أو القومي.
يستشرف إحسان عباس تحوّلات الشّعر في ضوء الثورة على الموروث، وأنساقه التقليدية، نحو التجديد الحتمي للشّعر الذي تحقق على أيدي شعراء تلك المرحلة، ومنهم بدر شاكر السّياب، ونازك الملائكة، ونزار قباني، وأدونيس، وعبد المعطي حجازي، ومحمود درويش وسواهم من الذين استشعروا عالمهم بحساسية جديدة حيث ينبغي للشعر أن يتحول عن وظائفه التّواصلية نحو رؤية مستجّدة، وتفسيرية للعالم، ولكن في ظل عقلية عربية، لم تكن قد وصلت إلى مستوى من التّعقيد الذي اختبرته أوروبا التي تعد نموذجاً للاحتذاء. وهكذا أضحى الشّعر أقرب إلى محاولات للثورة على الأنماط، والقيم السّائدة نتيجة التأثر بالغرب، فضلاً عما نشأ من ردة فعل على نتاج عملية نهضوية مرتبكة، قادتها جماعات شعرية هدفت إلى ترميم الأنا المنتهكة عبر تبني مسلك استرجاع النماذج التّراث والمتفوق، غير أن شعراء النصف الثّاني من القرن الشعرين، رأوا بأن الشّعر ينبغي له أن يأتي في سياق آخر، يكون أقرب إيقاعات ذواتهم، وعصرهم، ولهذا انتحوا مفردات وحساسيات جديدة؛ بعضها مستجلب، مما أفضى بدوره إلى ظهور اتجاهات شعريّة واضحة.
من أشد العوامل التي أسهمت بتبلور اتجاهات شعرية بدءاً من خمسينيات القرن المنصرم، ما كان للقضية الفلسطينية من أثر، بالتّجاور مع تداعيات النسق الإمبريالي، وما أحدثته النزاعات الثورية، واليسارية من خضة في الفكر العربي، مما استوجب نسقاً من الحالة التقدمية التي تنطلق في تكوينها المبدئي من رومانسية الذات، وتعاليها في مواجهة النموذج الغربي، وقاعدته الاستعمارية، وبالتّراصف مع هذا العامل، كانت المدينة العربية، تنمو، وتأخذ مظهراً حقيقياً، وماثلاً أمام الشّعراء الذين قدموا من القرية، تعلوهم مسحة من سذاجة المرتحلين نحو المراكز المدنيّة في العالم العربي، وما نتج من مواجهات المرأة، والدّعوات لتحررها، مما أمدّ الشعر بفائض من المساحات التي يمكن أن تصطنع مركزا شعرياً جديداً، ينهض في مجمله على دينامية حيوية، مركزها تبلور مفاهيم كالوطن، والحب، والمدينة، والمقاومة، والثورة على الموروث.
ومع كل ما يتخلل ما سلف من بروز لنزعات رومانسيّة نتيجة أزمة مواجهة الحداثة، وتبدد قيم المألوف، والرّغبة في اكتشاف الطارئ والجديد، علاوة على أفكار التّحرر، والنّزعة الوجودية التي بدت موضة في تلك الآونة، غير أن الدّهشة تعترينا حينما نطالع المشهد الشّعري في زمننا هذا على الرّغم من تعرضه لخضّات، تكاد تفوق ما عاينه في منتصف القرن العشرين، إذ ثمة مواجهة مع الألفية الثالثة، تتمثل ببروز النظام العالمي الجديد الذي قوّض مفهوم القطبين إلى عالم، لا مركزي ومتعدد، بالإضافة إلى سقوط جدار برلين، وغزو العراق، وانزياحات أعداد كبيرة من اللاجئين والنازحين، وسائر الأحداث والمواجهات التي تبدو جديرة، بأن تجعل العقل العربي، ومتخيله، يدرك بأن ما كان ينشغل به سابقاً، لم يعد له من قيمة، أو وجود فعلي. وبغياب بعض الأسماء الكبيرة في الشعر العربي كالسياب، وصلاح عبد الصبور، ونزار قباني، والبياتي ومحمود درويش، وغيرهم، فإن العمل الإبداعي الشعري، بات يعاني من أزمة، كون الأجيال الشّعرية الجديدة لم تتمكن من بلورة منظورها الخاص، وعجزت عن التعاطي مع التّحديات، والتّحولات الناشئة في السياق الحضاري العربي الذي يبدو شديد الارتباك من حيث الفصل بين مفردات العولمة، وشظاياها، وأزمة الذات، وخصوصيتها في مواجهة الآخر الذي يعني الجحيم على حد تعبير جان بول سارتر.
إن أي دراس يضطلع بمهمة تحديد اتجاهات الشّعر العربي في زمننا هذا، سوف يتعثر بإشكالية، تتحدد بالقدرة على تصور منطلقات لعوامل تبلور مسالك الشّعر، دروبه، وهنا يلتبس الأمر كون عالمنا بات متشعباً، ومتفجراً، إن كان على مستوى ما هو طارئ من عوالم أخرى، وما هو داخلي، وخاصة ما يعتمل في الشّخصية العربية بمنظورها الجمعي، ومدى إفادتها من الدّينامية الدّاخلية في توجيه التّحولات لخلق صوت شعري واضح المعالم. إن المتأمل في تحولات العصر منذ بدء الألفية الجديدة، سوف يواجه تلاشي معنى القيمة التي يمكن أن تحدث أثراً في تشكيل اتجاه شعري، فأهم الاتجاهات الشّعرية التي نهضت سابقاً على طابع يساري ماركسي، قد تهشمت جراء تفكك المعسكر الاشتراكي، ومن هنا فقد الشّعر أحد أهم أبرز مراكز خطابه، وفي اتجاه آخر، نجد أن اتفاقية أوسلو، وقيام السّلطة الفلسطينية، قد أحال القضية الفلسطينية إلى مسافر عالق في قاعة المطار ينتظر الصعود لطائرة لا تأتي، ومنا هنا فقد خرجت القضية الفلسطينية بطابعها الثّوري، لتفقد صوتها الهادر، مما حال دون استمرار اتجاه شعري واضح، أو لنقل بوصفه صيغة شعرية قابلة لأن تكون ثيمة عميقة التّأثير نظراً لاستهلاك معظم مفرداتها، وعدم القدرة على استيلاد منظورات ورؤى جديدة عبر الاتكاء على جدليتي الصّراع، والتّحول المتعاليتين. وعلى الرّغم من توفر الحروب والتّجاذبات السياسية والخيبات، إلا أن الشعر كان ضعيف الأداء في التعبير عن هذا النسق نظراً لتشتت مراكز التعبير، ولنضوب القيم الفكرية المعالجة للقضة الفلسطينية التي لا تتضح معالم تصوراتها المستقبلية تبعاً للوقوع في بينية مشروع المقاومة، والسلام، ولعل هذا يكاد ينسحب ضمن مفهوم الآلية، ولكن على مستوى تلاشي صدمة المدينة العربية، ومواجهتها، فالمدينة العربية مُجهضة غير مكتملة، إذ هي لم تصل إلى مكانة المدينة بتعقيداتها، وبِناها، فهي أقرب إلى تجمعات عملاقة، ولكن بلا نمط حداثي مدني، نظراً لكمون العقل الرعوي، وسلوكياته، إذا ما زالت قيم القبيلة، والنخب الإقطاعية المتجددة، تكبل تطور المدينة، وهذا ينسحب كذلك على ثيمة المرأة التي وجدت صوتها، وقدرتها على التعبير ضمن منظورها الخاص، ولكن برؤى مقنّعة، فنجد أن تحولات المرأة لم تكتمل سوى بظاهر الأشياء، أما على مستوى التعبير، فقد وجدت فضاءها في إطار النص السّردي المتخم بمكبوت متصدّع. وهكذا باتت مفردات المجتمع، والمرأة في مجال المنهي والمُنجز، كما هو الموروث الذي بات في معظم الأحيان مجرد افتتان، ولكن بتشكيل حداثي، وفي بعض الأحيان هو أقرب إلى لعنة الذّات، وخيبتها. ما من شك بأن هذا الوضع استوجب البحث عن مراكز وحساسيات أخرى، يمكن أن تسهم في تبلور اتجاهات شعرية في ضوء المخاض النفسي، والفكري العربي الراهن.
مع ظهور إشكالية الآخر بوصفها مهيأة لأن تكّون حساسية جديدة للكتابة الشعرية، ولاسيما بعد أحداث 11 أيلول التي أسهمت بنشوء أزمة محورها الأنا والآخر، مع بروز مفردات المواجهة، وما إلى ذلك من قضايا، يمكن أن تعد واعدة لمعالجة مواقع التوتر من خلال اعتماد دهشة الشّعر ورونقه، إلا أن الشّعر العربي قد أبدى قدراً من التّواضع، مما حال دون خلق ارتهانات فنية، وثيمية لهذا المدار، وهذا أتى بالتجاور مع انطلاق القيم الافتراضية، والرقمية التي ما زالت تجهز على الخطاب الشعري بسبب التواصل الجمعي الذي نزع عن الشعر وظيفته التواصلية، والتحريضية، وحتى التنفيسية، فغدا أقرب إلى تكوين متهالك المضامين، والشكل، على الرّغم من الأهمية التي تعوّل على الشعر للنهوض بمسألة المواجهة مع الآخر، وتداعيات المشروع الاستعماري، والأقليات، والحرية، والخطاب النسوي، وجمالية الشعر بوصفه قيمة جماليّة بحد ذاتها. إن أزمة الذات العربية المثقلة بهموم تحرر القيم المادية، والاستهلاك، والإرهاب، والديكتوريات، والهجرات… وكافة المستجدات القديمة الجديدة التي تعد وقوداً وخياراً شرعياً للخطاب الشعري الجديد، غير أن المزاج العام، قد خرج عن مساره نتيجة غياب التنظير الأيديولوجي العقلاني لصالح هيمنة الخطاب السّياسي/الدّيني البراغماتي، وتعالي الأصوات الرقمية. ولعل الثورات العربية، أو الرّبيع العربي يعدّ من أكثر التّحولات التي كان لها أن تسهم في تبلور اتجاه شعري واضح، ولكن خروج هذه الثّورات عن مسارها، وما تمخض عنها من مشهد بائس لمعنى التّشرذم العربي، وضآلة الإنسان العربي نتيجة الاقتتال، قد أسهم بعزوف الشّعر عن تكوين صورة موحدة للتعبير عن هذا الموقف، ولتصفية قيم الجمال في روح الإنسان العربي التي تشوهت، وانقصمت.
وختاماً نخلصُ إلى أن الشّعر العربي في زمننا هذا، لم يمتثل لوعي عميق، يقوم على رصد متغيرات الزّمن، واتخاذ موقف واضح ينطلق من شعور جمعي للشّعراء العرب الذي حاروا في تحديد معنى الشّعر، ومواصفاته في هذا الزّمن، ولهذا فإننا لا نكاد نعثر على معنى لقيمة شعرية، أو مدرسة شعرية، تتخذ خطاباً واضح المعالم، إن كان على المستوى الإنساني، أو على المستوى الفني الجمالي، إنما هنالك كتابات شعرية، ودواوين تصدر تباعاً، لا يجمعها رابط سوى أنها تصدر ضمن آلية تزامنية، إذ تمضي دون أية آثار، يمكن أن يؤرّخ لها في المقررات الدّراسية التي توقفت عند قصائد بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ومحمود درويش، وأحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور، والماغوط
القدس العربي .