الصادق عبدلي ….. فلسفة الشّعاب أو فلسفة الراهن: قراءة في فكر الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني

الجسرة الثقافية الالكترونية -وكالات -إنّ الفيلسوف و المفكر والشاعر والمترجم التونسي فتحي المسكيني الألمعيّ على الساحة الفلسفية اليوم يشتغل ضمن فكر ما بعد الحداثة أو فكر ما بعد الأنوار، “فكر ما بعد إنساني” بلغة سلوتردايك. ولقد عرفناه عندما كنا تلاميذ من خلال مجلة الفكر العربي المعاصر، فتأثرنا أيّما تأثير بإبداعه في اللغة الفلسفية وهي تنطق بلغة الضاد وحملتنا دروسه في الجامعة التونسية كطلبة على ممارسة التفكير الفلسفي على نحو مختلف، وكذلك كـفيلسوف معاصر “إنسان بدون مرجعيات” «un homme sans références » يعلن “حربا ضد نفسه” بعبارة جاك دريدا، من جهة انهمامه بالمشاكل الفلسفية الراهنة يكتب لكي “لا يكون له(م) وجه واحد بعينه” فهو مفرد، متفرد ينبت في هذه الحديقة الإنسانية وكـمفكر من خلال مجموعة كتبه التي تهتم بالشأن اليومي وتُدلف نحو المشاكل الراهنيّة لتبرأ سقم الأجنحة المتكسرة للعقول الكسولة وتروي ظمأ العقول المتعطشة للفلسفة، وهو يجهد فكره في إحياء التراث الفلسفي وقراءته قراءة تأويلية هيرمينوطقية دلت عليه غزارة المقالات الفلسفية المبثوثة سواء في المجلات الفلسفية التونسية أو الدولية. وإذا قلنا فتحي المسكيني الفيلسوف النابتة فوق “الحديقة الإنسانية” ، فهو كـشاعر تجود قريحته بما يمسّ القضايا الإنسانية والكونية وكـمترجم لأمهات الكتب الفلسفية إلى لغة الضاد رغم دعوة البعض بموتها وعجزها عن إحتواء الآخر الفلسفي والثقافي والمعرفي والحضاري والإستيطيقي وهو دليل على جسارة الفيلسوف العربي وجرأته في فتح ما هو مستغلق على الفكر وإتقان لمخابئ اللغة الفلسفية بألسنتها المختلفة وفنادقها المدفونة في بيت اللغة وتحويل الفلسفة من الأبراج العاجية والدكاكين المعتمة إلى فلسفة الشِّعَابُ أو فلسفة الراهن فلسفة الطَرْقِ والطُرُقِ طرق الأبواب الموصدة وفتح عوالم الفكر ومخازنه على الراهن الفلسفي، فصار الفارابي والكندي وابن رشد وكانط وهيغل ونيتشه وجبران معاصرين لنا وفلسفة الطرق من جهة تأويلية كجعل ابن رشد خارج منفى قرطبة معاصرا لهابرماس من خلال العقل العمومي وهو تملك للتراث الفلسفي وجعله حاضرا ومعاصرا بيننا.
1- فتحي المسكيني كـفيلسوف:
أسوة بقول جيل دولوز:”إنّ الفلسفة هي إبداع للمفاهيم” ونضيف على قول دولوز بأن الفلسفة لا تقاس بما كتبه الفيلسوف، بل بما أبدعه من مسائل فلسفية راهنية وفلسفة الشعاب أو فلسفة الراهن للفيلسوف فتحي المسكيني تفهم من خلال ما استنبطه الفيلسوف من مسائل ومعضلات فلسفية لم يتطرق إليها المتفلسفين من العرب، متفلسفين القرن الحالي إلاّ لماما تتعلق بما يمسّ الإنسان العربي الأخير وما يحدق به من قضايا تمثل إعضالا فلسفيا وترهق الفكر صعودا كـ:” نقد العقل الهووي” و”ما هو الإرهاب؟ الهوية العدمية التاريخية” و”فوكو والإسلام”، و”نيتشه نابتة الحداثة” و”الهوية والزمان”، “النسخة العربية من العدمية: جبران أمام نيتشه”، “التفكير مع هيغل ضد هيغل” و”جغرافية العقل العمومي” و” مولد “الإتيقا” عند العرب”، “من هو متوحد ابن باجة؟” و”ابن رشد والإستعمال العمومي للعقل” و”من هو الفيلسوف؟” و”تأويلية الإنسان الأخير” و””الفيلسوف والإمبراطورية” و”ما هي أمريكا؟ و”إدوارد سعيد: الهوية والإمبراطورية” و “”الإمبراطورية والمسلم الأخير و”في كانطية الجمهور أو تنوير الإنسان الأخير” و”فلسفة الإله الأخير” و”هوية الثورة” و”بيوغرافيا البؤس” ، “الثورة والهوية أو الحيوي قبل الهووي” ، ” الغيرية والاعتذار أو الفلسفة ومسألة -تحريم الصور-” وهي طروحات فلسفية تبلور رؤية الفيلسوف واهتمامه بقضايا عصره وهو اشتقاق فلسفي من الشأن اليومي بما هو شأن لا فلسفي و تحويل المعاني العامية إلى “المعاني الفلسفية” كما هو مشار إليه لدى الفارابي في كتاب “الحروف” .
إنّ الفيلسوف فتحي المسكيني الذي صار منارة للفكر ومرجعية فلسفية بدون مرجعيات للباحثين، يعرف بكونه لا يدشن قبورا للفكر ولا يبني دكاكينا لتعتيم ما يجري في عصره ولا يخيط أفواه الجمهور ولا هو جلادا للفكر ولا يقوم بتدجين أفكاره والفكر عامة ولا هو جوقة بيد السياسي ولا حتى من سدنته وإنّما السياسي تزعجه لغة الفيلسوف وترهقه في أروقتها ومخازنها وبين سطورها، فيحاول سرقة فكره وتدجينه وإن فلت من قبضته، يريد سرقة نجاحه، ويحاول حجب إشعاع نجمه الصاعد ولكن هيهات، هيهات له، كما يقول شاعر المعرة أبو العلاء : “تثاءب عمر، إذ تثاءب خالد/ بعدوى فما أعدتني الثأباء”. فالفيلسوف المسكيني لم تصبه عدوى السياسة التدنيقية (تدنيق)، العرقوبية (عرقوب)، الدُفيّة (الدُّف)، فلا أحد يفتك منه عالمه الخاص كلف ذلك ما كلف رمزيا أو ماديا، بل هو القارئ لعصره والمتكلم بلسانه يقوم بالتحقيق وليس بالتدنيق لما يشهده من عصره وهو شوكة في وجه كلاب الحراسة والخائنين لمهمة الفكر أينما وجد شبيه بـديوجان السينوبي الذي عاش في برميله وهو ديوجان الرمزي للعصر الحالي عرف بكونه بحاثا عن الحقيقة وعن الإنسان الذي وقعت رسملته وإدخاله “جدول الضرب” بعبارة نيتشه المجازية وصديقا للمفهوم بعبارة جيل دولوز “شخصية مفهومية” . وفتحي المسكيني هو فيلسوف يشتغل على التأويل كنمط فلسفي يعود جذوره إلى هرمس ويتجذر مع هيدغر في قراءته للإرث الفلسفي الغربي، ولكن الفيلسوف فتحي المسكيني يبلور فلسفة تأويلية للفكر العربي المعاصر كـنقد العقل الهووي تستفيد من الوافد لإحياء الرافد وجعله حاضرا بيننا، وهي بالأحرى مهمة لا يقتدر عليها إلاّ من دخل خُلوة الفكر ولم يستطع العودة منها وهكذا هُم الفلاسفة كـسقراط وديوجان السنوبي الكلبي Diogène de Sinope والفارابي والكندي وابن رشد والغزالي وابن باجة وجان أموس كومنيوسJan Amos Comenius(1592-1670) وهيدغر وفوكو ودولوز وجاك دريدا وهابرماس ورورتي وجياني فاتيمو وبيتر سلوتردايك وهكذا يبدو لنا الفيلسوف فتحي المسكيني الذي لم يكن سجين أقبية الجامعة ولا “وعيا إسمنتيا مسلحا” بعبارة سليم دولة ولا مقاولا فكريا يبحث عن الترف ولا كهنوتا ولا شرطيا للفكر كحال البعض منهم اليوم ولا فيلسوفا بلاطيا وليست له إيديولوجيا تحركه كأنّه دلوزيا وهو يحول حياته إلى “أثر فني” ، وإنما هو مرجعية فلسفية بدون مرجعيات، كتاباته شاهدة على عصره، والدليل على ذلك أنّه أول من طرح مشكلة الإرهاب سنة 1997 في مقال فلسفي:” ما هو الإرهاب؟” نشر بمجلة دراسات عربية قبل أن يكتب كل من هابرماس وجاك دريدا عن الإرهاب بما مشكلة فلسفية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 ، إنه يفصل بين سقراط الموظف وسقراط الفيلسوف بلغة غرامشي، وهو الذي جعل من خاتمة كتابه “النوابت” بعنوان: “من هو الفيلسوف؟” بداية للتفلسف على نحو مختلف وتفلسف من جهة الأنف بعبارة نيتشه يشتم المسائل الفلسفية ويستنطقها من وجوهها المتعددة ويثير بها حساسية العقول الضامئة للمعرفة والعقول الكسولة يسحب من تحتها الوسادة “وسادة الكسل” بعبارة سليم دولة، ويعرّف الفيلسوف فتحي المسكيني مهمّة الفيلسوف بما هي التساؤل عن الموضع الذي تنساب منه المعاني التي تخصه دون القفز على تاريخ السائل الذي لا يكون إلاّ الفيلسوف وتاريخ الأسئلة التي يطرحها داخل عصره إذ يقول:”ولكن من يسأل؟ إنّه ليس سوى الفيلسوف…ولذلك ينبغي لنا نحن المتفلسفة آخر الزمان أن نسأل بكل حرص عن هذا الموضع الذي يمكن أن تنساب إلينا منه المعاني التي من شأننا، “اليوم”، “نحن” سكان جنوب الحداثة، الذين نتفلسف بلا “يوم” ميتافيزيقي يخصّنا؟ ” وهكذا يمكن أن نستفيد من تجربة الفيلسوف فتحي المسكيني الذي جذر فلسفة بلا “يوم” ميتافيزيقي، فلسفة الشّعاب أو الطرق التي تتقصى تخوم الفكر بلا “وطن”“Unheimlichkeit“ يخصها غير وطن الفكر الحرّ، فلسفة بلا نهايات تميتها، فلسفة بلا بدايات تحدّها، فلسفة تأتي من مستقبل الأفكار وتغرف غرفا من الماضي لترسي به في الحاضر، أسئلة تحي بها عقولنا الضامئة للمعرفة دون أن نعرف قانون غبطتها، هي جذلى بما تحمله لنا من إبداع. تلك هي فلسفة الراهن أو فلسفة الشّعاب Philosophie des chemins . فإذا كانت اللغة حسب هيدغر هي الوطن « Die Heimat »، والمنزل والبيت أو “الأركيون” « Arkéon » بلغة اليونان، أركيون الكينونة ، فإن فيلسوفنا تفلسف باللغة وفي اللغة، فجعل اللغة تتحدث الوجود والوجود يتحدث باللغة، وذلك ينبثق من خلخلة حبال اللغة العربية وتفجير ينابيعها وفتح فنادقها المغلقة، فصارت ندّا للغات الأخرى وتحول حلم الفارابي إلى حقيقة وهو الذي حلم بوضع قاموس للمعاني الفلسفية بلغة الضاد داخل فضاء الملّة وزرع بذور الفلسفة في ملّة لا تعرف الفلسفة آنذاك وكذلك يتفلسف الفيلسوف المسكيني في ملّة ترهلت روحها وغفل عن جهابذة الفكر وأساطين المعرفة وهو يستخدم كل فنون المعاندة الفلسفية في الكتابة لإكتساح الساحة الفكرية لا يثني عزمه شيئا. إنّه جدير بأن نطلق عليه متنبي الفلسفة في العصر الحالي.
وحرّي بنا أن نشير إلى الإنزياحات الطريفة التي تحي التراث الفلسفي كالفارابي، وابن رشد، وابن باجة، وكانط، وهيغل، ونيتشه، وجعله حاضرا بتأويل له حتى يصير معاصرا لنا. وهو يقوم بتنشيط المفاهيم الفلسفية وإحيائها بعد موتها، مثال ذلك مفهوم “النابتة” و”النوابت” كمفهوم وظفه أفلاطون في كتاب “الجمهورية” لنعت العبيد وله دلالة سلبية. كما أشار إليه الفارابي في كتاب “الحروف” ونعت به المارقين على مدينة العقل ولكن ابن باجة جعل هذا المفهوم له وظيفة ايجابية ينعت به الفيلسوف الذي يصفه بالزرع النابت من تلقاء نفسه وكلّ من نبت من تلقاء نفسه فهو حرّ ومتوحد في وطنه الذي لا وطن له غير وطن الفلسفة وكذلك الفيلسوف فتحي المسكيني أخرج هذا المفهوم المطمور في بطون أمهات الكتب الفلسفية ليحرّره من أقبيّة الفكر ومُومياء الفلسفة ويجعله صفة للفيلسوف الذي ينبت فوق عصره كنابتة على أفق ما بعد الحداثة بلغة فرانسوا ليوتار و” عصر العقلانية الرقمية” بلغة سلوتردايك.