الصخب والعنف” لفوكنر، تقنية روائية تروي أسطورة الجنوب الأميركي

الجسرة الثقافية الالكترونية
المصدر /المدى
وصفت رواية”الصخب والعنف”للروائي الأمريكي المعروف وليم فوكنر الصادرة طبعتها الجديدة عن دار المدى بترجمة المترجم القدير جبرا ابراهيم جبرا بأنها”رواية الروائيين”، وتكاد هذه الصفة تختزل أسلوب وعوالم ومناخات هذه الرواية؛ الباهظة الصعوبة، فقد اكتسبت الرواية هذه الصفة نظرا لأسلوبها المعقد والجذاب في آن، وطريقة سردها المتشابك، وبنائها الروائي المحكم ما جعلها إحدى أهم الكلاسيكيات الروائية ليس في الولايات المتحدة فحسب
حيث صدرت الرواية للمرة الأولى في العام 1929م، بل في العالم بأسره، إذ صدرت لها طبعات لا تحصى، وترجمت الرواية إلى مختلف اللغات الحية في العالم، بينها الترجمة العربية التي أنجزها جبرا إبراهيم جبرا.
كان فوكنر في مطلع الثلاثينات من عمره حين أصدر”الصخب والعنف”التي تحتل الترتيب الخامس بين كتبه التي بلغ مجموعها نحو خمسين كتابا، ومع ذك عُدّت أفضل ما كتب فوكنر، فقد شغلت اهتمام النقاد والدارسين، واعتبر تركيبها الفني إنجازا أدبيا فريدا. ويبين جبرا إبراهيم جبرا في مقدمته اللافتة للطبعة العربية الظروف التي مهدت لظهور مثل هذا العمل الأدبي المتميز، إذ يقول بان”العقود الأولى للقرن العشرين (وهي الفترة التي شب فيها فوكنر)، شكّلت فترة من أهم فترات التجريب وأخصبها في تاريخ الرواية الغربية، فهي الفترة التي لمع فيها شعراء مثل ت.س. أليوت، وعزرا باوند وكلاهما أثّرا في تغيير أشكال الأدب لا في الشعر بل في النثر أيضا، وهي الفترة التي ترسخت فيها نظريات فرويد ويونغ في اللاوعي، فصار المؤلف يتغلغل في خفايا الشخصية ويكتشف طبقات الوعي السفلي،”إلى أن يبلغ القرارة التي ترسّبت فيها تجارب الحياة وذكرياتها وأحلامها”، وهي الفترة التي ظهرت فيها السوريالية مستمدة قوتها من نظريات اللاوعي، وظهرت في هذه الفترة روايتان مهمتان أثرتا في معظم ما كتب فيما بعدهما”البحث عن الزمن الضائع”لمارسيل بروست، و”يوليسيز”لجيمس جويس.
ويرى جبرا أن فوكنر كان يتشرّب هذه التأثيرات وغيرها على مهل، وعندما شرع في كتابة”الصخب والعنف”، التي استغرقت نحو ثلاث سنوات، كان قد هضم تأثيرات فترته بحيث استطاع أن يجعل منها عدة لرواياته، التي تعتمد المونولوج الداخلي، وتقنية الفلاش باك (العودة إلى الماضي القريب والبعيد)، ووظف، كذلك، التحليل النفسي الفرويدي حول الـ (هو) والـ (أنا)، والـ (الأنا الأعلى) و(الليبيدو)، أي الطاقة الجنسية. الصراع في رواية فوكنر هذه، كما في معظم رواياته، يتجلى في الصراع بين الشمال الأمريكي وبين جنوبه، خاصّة بعد أن خسر الجنوب الحرب الأهلية وغزاه الشمال بوسائل شتى غيرت معالم الحياة فيه،”وهذا التغير بما فيه من انحطاط أو سموّ، من شهامة أو حقارة، وبما سبقه وتلاه من جرائم وصراع وهتك عرض، هو موضوع فوكنر”. وفي مقابل تركيز فوكنر على الظواهر السلبية وانحطاط الأخلاق، فإن الشرف والإباء كلمتان تترددان في أكثر كتبه، فهو حين يوغل عميقا في إبراز الشـــر، ويمعن في الحديث عن الجريمة والجشع والفساد… فإنما يهدف من وراء ذلك إلى الإعلاء من شأن كل ما هو نقيض لهذه السلبيات، وبالتالي فان كتبه التي تحفل بعناصر القسوة والعنف والشر، تضمر، في الآن ذاته، دعوة خفية إلى التمســك بالنقيض أي قيـــم الشـــــــجاعة والوفاء والكبرياء والإباء والحب…، ويتخذ فوكنر من الجنوب مســرحا يعتبره نموذجـا مصغرا لما حــل بالعـالم من فوضى خلقيّة وانحلال اجتماعي، ويرى في ذلك مأساة كونية”. إنه صراع بين مادية الشمال ومثالية الجنوب،”لكن تقاليد الجنوب العريقة، نفسها، فيها الكثير من البلى والوهم، وتفوح منها رائحة الموت”، كما يرى صاحب”نور في آب”.
وقائع الرواية:
وفقا لهذا التمهيد، فإن رواية”الصخب والعنف”تتناول سيرة آل كمبسُن (المقيمة في دار كبيرة في مدينة جفرسون، وفي خدمتها عدد من الزنوج أهمهم دلزي). تحاول التمسك بالتقاليد الارستقراطية عبثاً، فالأب وهو بليغ الكلام، يعتكف على مطالعة الكتب الكلاسيكية ومعاقرة الخمر ينشد فيهما نسيان تيار الحياة الجديدة، والأم”سيدة”شديدة الكبرياء والترفع لكنها دائمة المرض تقضي أوقاتها في الفراش مصرة على منزلتها الاجتماعية، ولا تثق إلا بابنها جاسن، وهو الذي يسلب مالها دون وعي منها لأغراضه الشخصية. تبيع الأسرة قطعة ثمينة من أراضيها لإرسال كونتِن إلى جامعة هارفارد، وهو يحب أخته كاندي، حباً شديداً، ولكنه يتألم جداً عندما يعلم أنّها عشقت رجلاً غريباً وضاجعته، فلا يستطيع أن يتحمل فكرة فقدانها العفاف وما في ذلك من وصم لشـــرف آل كُمبسُن، فيدعي أمام أبيه أنّه هو الذي ضاجعها! ثم تتزوج أخته وهو في هارفارد بعد ذلك بمدة قصيرة، فينتحر غرقاً في نهر تشارلز في كيمبريدج. أما أخته كاندس أو كادي، فيكتشف زوجها أنها حامل من رجل آخر، فتسوء سمعتها (وقد أخذت الأسرة ابنتها لتربيتها) إلى أن نسمع أخيراً أنها عشيقة لجنرال ألماني في باريس، وفي هذه الأثناء كانت كاندي ترسل أول كل شهر مقدارا من النقود كي يصرف على ابنتها كونتن (التي سميت باسم خالها بعد انتحاره) ولكن جاسُن كان يكرهها ويشاكسها، ويكره ابنتها أيضا، يتسلم المال ويخفيه عن الفتاة التي تكتشف الخدعة، وتحصل على المال المسروق وتهرب مع أحد ممثلي السيرك. وطوال هذه السنين كان بنجامين أو بنجي المعتوه؛ يحظى بعناية الخدم الزنوج مع عطف شديد من دلزي، ومن شقيقته كاندي التي أحبها كثيرا، ويهاجم مرة فتاة فيطلب جاسُن إلى أبيه أن يخصيه دون جدوى، إلى أن يموت الأب فيخصى بنجي ثم تموت الأم، فيضع جاسُن أخاه بنجي في مستشفى المجانين ويسرح الخادمة دلزي وأولادها، ويبيع الدار لرجل يحولها إلى نزل ولا يبقى من الأسرة شيء، إذ تتلاشى أسطورتها مع ضياع قيم الجنوب ونقائها.
الرواية، إذا، تعالج انهيار عائلة كمبسن من خلال استذكار ثلاثة إخوة للماضي، فضلا عن القسم الأخير الذي يرويه المؤلف، لذلك هي أشبه بسيمفونية تتكرر فيها الإشارة إلى الحوادث نفسها”كأن كل حادثة موتيف في السيمفونية تعزفها كل مرة آلة مختلفة”. بنجي الذي يروي الحكاية في 7 نيسان 1928 معتوه، يسمع ولكن لا ينطق ولا يستطيع إلا الصراخ والعويل وهو حين يروي الحوادث لا يستطيع أن يرتبها زمنياً، وما حدث قبل عشرين سنة وما حدث اليوم كلاهما متساوي الأهمية في سرده، متساوي الوضوح بكل ما فيه من جدة وطرافة وبراءة، إنها حكاية يرويها معتوه، وكونتن الذي يسرد حكايته في 2 حزيران 1910 طالب في هارفارد مفرط الحساسية؛ شديد التعلق بشرف الأسرة، وجاسن الذي يروي الحكاية بتاريخ 6 نيسان 1928 فظّ، شرس، ساديّ، أناني، يبغي من الحياة النجاح وتجميع الثروة عن أي طريق.
ولأنّ الرواية مبنية على تدفق الذكريات، وعلى سرد الحوادث ذاتها بلسان أكثر من شخصية، نجد أن أحداث الرواية لا تتصاعد على نحو تقليدي؛ منطقي، بقدر ما تدور على نفسها أو تتحرك في خطوط متوازية، إذ تنهض الرواية على ثلاثة أصوات متباينة، فضلا عن صوت الراوي المؤلف، وهذا يقود القارئ إلى الانتقال عبر الأزمنة المختلفة، فتختلط عليه الوقائع، وهو ما دفع فوكنر إلى كتابة ملحق للرواية، بعد سنوات من صدورها، كي يقدم للقراء مفاتيح تعينه على الخوض في مجاهلها ومغاليقها، واتبع كذلك شكلا طباعيا عبر استخدام الحرف المائل حينا أو تجاهل الترقيم أحيانا وذلك لأجل التمييز بين الماضي والحاضر، وبين المونولوج والحديث الواعي. ولد فوكنر بالقرب من بلدة اوكسفورد في ولاية ميسيسيبي الأمريكية، وفي الوقت الذي أظهر فيه موهبة فنية بالرسم وموهبة أدبية في الشعر ترك الدراسة بعد أن سئمها ولم يحصل على تعليم عالٍ. تسكع كثيرا هنا وهناك، وشُوهد حافيا، مفلسا، غير حليق الذقن، يجلس القرفصاء في الشوارع، يقرأ ويستمع إلى أحاديث الناس وخاصة الزنوج حيث تحدّث عنهم فيما بعد في معظم أعماله الأدبية، متأثراً بنتائج الحرب الأهلية الأمريكية التي أدت إلى انتصار الشمال على الجنوب وتحرير الزنوج. وهو يعتبر واحداً من أكثر الكتاب تأثيراً في القرن العشرين. عمل بين العامي 1932 و1945 كاتبا سينمائيا في هوليوود. حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1949م، كما نال جائزة (بوليتزر) لمرتين. تتميز أعماله بمساحة ملحوظة من تنوع الأسلوب والفكرة والطابع، وكأنه ينظر إلى الكتابة على أنها مغامرة لا تخلو من المحاولات المتعثرة حينا والناجحة أحيانا. الكتابة لديه تجريب دائم ومستمر.
المؤلف.. ويليام كتبيرت فوكنر
ولد في 25 ايلول 1897 – وتوفي في 6 تموز 1962) روائي أمريكي وشاعر وأحد أكثر الكتاب تأثيراً في القرن العشرين. حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1949، كما نال جائزة بوليتزر في عام 1955 عن حكاية خرافية، وفي عام 1963 عن الريفرز. تتميز أعماله بمساحة ملحوظة من تنوع الأسلوب والفكرة والطابع.. استلهم فوكنر معظم أعماله من مسقط رأسه، ولاية ميسيسبي، حيث يعد أحد أهم كتاب الأدب الجنوبي بالولايات المتحدة الأمريكية، وينضم إليه في نفس القائمة مارك توين، وروبرت بين وارين، وفلانري أوكونور، وترومان كابوت، وتوماس وولف، وهاربر لي، وتينيسي ويليامز. وكان فوكنر قليل الشهرة قبل فوزه بجائزة نوبل للأدب لعام 1949، بالرغم من أن أعماله نشرت منذ 1919، ويعتبره البعض اليوم أعظم روائي في التاريخ الحديث.
المترجم
جبرا إبراهيم جبرا
ولد عام 1920توفي في 1994 هو مؤلف ورسام، وناقد تشكيلي،، ولد في بيت لحم في عهد الإنتداب البريطاني، استقر في العراق بعد حرب 1948. تنقل للعمل في جامعات العراق لتدريس الأدب الإنجليزي وهناك حيث تعرف عن قرب على النخبة المثقفة وعقد علاقات متينة مع أهم الوجوه الأدبية مثل السياب والبياتي. يعتبر من أكثر الأدباء العرب إنتاجا وتنوعا إذ عالج الرواية والشعر والنقد وخاصة الترجمة كما خدم الأدب كإداري في مؤسسات النشر.. توفي جبرا إبراهيم جبرا سنة 1994 ودفن في بغداد.
انتج نحو 70 من الروايات والكتب المؤلفة والمترجمه المادية، وقد ترجمت اعماله إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة.