الصدمة (مقتطف من السيرة الذاتية للموسيقار عبدالعزيز ناصر)

مـع بـدء العام الدراسي الجديد وانتظـامي بالدراسـة فـي المعهـد اسـتعدادًا لدخول امتحـان السنة النهائيـة فيـه، حرصت منذ البدايـة علـى المـذاكرة للحصول على التقدير الذي أطمح إليه في شهادة البكالوريوس. في الموعد المحدد لامتحان مادة الكمان الغربي، حملت آلتي وتوجّهت بها إلى المعهد، وأثناء صعودي سلم المعهد المؤدي إلى الطابق الثاني حيث قاعة الامتحان؛ إذ بي أفاجأ بالسيدة “بلانش” -وكيلة المعهد- تقف في نهاية السلم، لتمنعني من الوصول لقاعة الامتحان.

قلت مستغربًا: هل وصلت متأخرًا؟

قالت: لا، ولكنّ هناك قرارًا بمنعك من دخول امتحان هذا العام.

قلت: ما سبب ذلك المنع؟!

قالت: لقد اعتذرت السنة الماضية عن دخول الامتحـان، ونحن بدورنا نعتذر عن دخولك امتحان هذه السنة.

قلت: حالتي الصحية حالت دون تمكّنـي مـن دخـول امتحان العام الماضي.

قالت: تقديرًا لظروفك تلك سنسمح لك بدخول امتحان العام المقبل، أما هذه السنة فعليك أن تقبل هذا النوع من الجزاء.

لُذْتُ بالصمت، وأدرت وجهـي لأبـدأ فـي هبـوط السلم، لأجـد نفسي في الشارع حاملًا بيدي آلة الكمان بحقيبتها السوداء أسير بها دون هدف محدد.

استحضرت في ذهني صورًا مشابهة من الإحباط كنت قد عايشتها من قبل وخرجت منها بسلام؛ إلا أني أوجست في نفسي خيفة، فبحكم القوانين المعمول بها في وزارة التربية والتعليم في قطر سيوقف راتبي الشهري في السنة القادمة، ولا يوجد لي أي مصدر مالي آخر، لا سيما وأنني لم أكن قد تقاضيت أجري من الإذاعة عن تلحين أعمالي الغنائية منذ عام ١٩٧٣.. فما عساي أن أفعل؟.

أمضيت يـومي هائمًـا فـي شـوارع القاهرة، شارد الذهن، لا أعلـم غايـة أنشدها. ثم عدت في المساء إلى ظلمة البيت، مسترجعًا ما مرّ بي من أحداث، محاولًا أن أجمع أشلاء نفسي المبعثرة، وأُعيد لها ذلك التوازن الذي جُبلت عليه بين الواقع والمفروض.

بذكر الله أطمأنت نفسي، وعاد لي الأمل في الغد من جديد.

في منزلها بمدينة الإعلام لَمَحَـْت والدتي في عينـي شـيئًا لطالمـا حاولتُ إخفاءه عنهـا رحمـة بهـا، لما كانت تحملـه، عبر سنوات عمرها، من أحزان وأعباء.

قالت: ما يحزنك؟

قلت: لا شيء.

قالت: أشعر أنك تحمل همومًا تجاوزت عمرك الصغير.

قلت: يتهيأ لك ذلك، فأنا بك أسعد الناس.

قالت: الله يسعدك.

قلـت: سعادتي أن أراك سعيدة، ثـم قبّلـت رأسـها وتناولنـا وجبـة الغـداء اليومية معًا.

قررت بعد ذلك –اضطرارًا- مرافقة بعض مطربي الخليج في تسجيلاتهم لشركات الإنتاج الخليجية، كعازف على آلة الكمان نظير أجر يُعينني على توفير إيجار المنزل، وحرصت على أن أتقاضى منذ ذلك اليوم أجري عن التلحين؛ إلا أنني لم أستطع الاستمرار في هذا طويلًا فلقد كانت الموسيقى بالنسبة لي -طـوال حيـاتي وما زالت- هوايـة ووسيلة للتعبير عن القيم والمثـل العليـا، وقضـايـا النـاس، ولـم تـكـن يومـًا عنـدي أداة للتكسـّب والاسترزاق.

وُلدت في هذه الظروف أعمال غنائية منها:

(لي يطرى على الأول) لإبراهيم حبيب، التي سُجلت مع فرقة حمادة النـادي الموسيقية بأستديو 46 بالإذاعة. و(عنـدي أمـل) لفرج عبـدالكـريم التـي سُجلت بعد ذلك بسنوات.

عندي أمل

طال الزمان

قصر الزمان

عندي أمل

وعمر الأمل

ما مرة خان

عندي أمل

عندي أمل طال الزمان.. ولا قصر

بيجينا يوم وبنلتقي بعد الصبر

عندي أمل

* * * *

بانقضاء أيام الصيف، واقتراب موعد بدء العام الدراسي الجديد، ذهبت للمعهد، وأخذت من إدارته تعهدًا بدخول امتحان آخر السنة، لعدم تكرار ما حدث لي في العام السابق.

مع بداية العام الدراسي الجديد ٧6 / ٧٧ وجـدت -لحسن حظي- اسمي مسجلًا لدى أستاذة الكمان الغربي الخبيرة الروسية السيدة “مارجو”، وهي من الأساتذة القلائل المشهود لهم بالجدارة والتميز في تدريس هذه الآلة.

امرأة قاربت الستين من عمرها، حادة الطباع، قاسية الملامح، نادرًا ما تبتسم، لكني وجدتها توليني اهتمامًا خاصًّا ومتميزًا عن بقية الزملاء، الأمر الذي أثار استغرابي، فلما استفسرت عن سر ذلك من أحد الزملاء الذين يجيدون شيئًا من اللغة الروسية، أجابني بعد أن سألها بقوله: إنني الطالب الوحيد المسجل لديها لنيل شهادة البكالوريوس، أما الآخرون فهم من الملتحقين بالسنة الثانية والثالثـة فـي القسم العالي. مضيفًا بأنها أخبرته عن رغبتها في أن أتردد عليها بمنزلها بمصر الجديدة عصر يومي الأحد والخميس، لإعطائي بعض الدروس الخصوصية اللازمة من أجل بلوغ مرحلة الاستعداد الأمثل لخوض اختبار السنة النهائية.

في اليوم الأول ذهبت إليها في الموعد المحدد، استقبلني زوجها مرحبًا بي بالعربيـة التـي يُجيـد القليـل منهـا، حيـث تبيّن لـي بعـد ذلـك أنـه مـن مواليـد الإسكندرية، وقد قرأ كما أخبرني شيئًا من القرآن.

سألته عن الأجر الذي تتقاضاه في الدرس الواحد، ابتسـم والتفـت إليـهـا متحـدثًا بالروسية، فـإذا بهـا تستشيط غضبًا، وتُطلق بصوت مرتفع بعض الكلمات التي لم أفهمها بالطبع، وإن كنت قد شعرت بأنها غاضبة مني، ثم التفت إليّ قائلا: لقد أغضبها سؤالك هذا، وتريدك أن تعلم بأن اهتمامها بك لا يعني شيئًا مما يدور في ذهنك، لكنـه يرجع إلى حرصها على مستقبلك، وإنجـاز المقرر بشكل جيد قبل موعد الامتحان.

إنّ أجرهـا الحقيقـي الـذي تصـر عليـه، ولا تقبـل بـديلًا عنـه، يكمـن فـي نجاحك وحصولك على شهادة البكالوريوس بتقدير “امتياز”.

قلت: أرجو أن يوفقني الله لأكون عند حسن ظنها بي.

قال: إن لديها رغبة في أن تذهب معها بعد حصولك على البكالوريوس إلى ليننجراد لإكمال دراستك هناك.

قلت: هذا يسعدني.

قال: تقول إنك قد لا تستطيع تحمل البرد الشديد هناك.

قلت: ولا تحمل الاغتراب طويلًا عن عالمي العربي.

قضيت أيامـًا ذهابـًا وإيابًـا مـن بيتي في المهندسين إلى منزلها في مصر الجديـدة، أستفيد بقـدر استطاعتي مـن علمهـا ودروس العزف على آلة الكمان، لم تتركني إلا في ليلة الامتحان، بعد أن اطمأنت عليّ من خلال إجراء “بروفة” لمقرر الكمان بمصاحبة عازف البيانو الأستاذ عيسى.

في الصباح الباكر وأمـام لجنـة مكونـة مـن كـبـار أساتذة الكمـان الغربي بالمعهد، أكرمني الله بفضله وأديت الامتحان الذي جاءت نتيجته حصولي على تقدير “امتياز” في آلة الكمان، كما تمنيت وتمنت أستاذتي. كمـا جـاءت درجة “الامتياز” في التقدير العـام لجميـع المـواد متفقـة مـع مـا حصلت عليه في الآلة الأساسية من تقدير.

كم كانت فرحة أستاذتي كبيرة إثر هذه النتيجة، مما جعلني أُسرع في تقديم بعض الهدايا إليهـا تقـديرًا منّـي علـى مـا قدمتـه مـن أجلي، لكني فوجئت برفضها لما قدمت، كما رفضت تقاضي أي مبلغ من المال نظير ما بذلت من جهد، وهنأتني قائلة:

إن نجاحي بتفوق هو الثمن الحقيقي الذي كانت تنتظره، وإنها ستكون مسرورة أكثر لو وافقت على السفر معها إلى ليننجراد لإكمال دراستي هناك، حيث إنها قد قررت ترك عملها بالمعهد، والعودة إلى بلدها لعدم حصولها من إدارته –كما قالت- على التقدير الذي يتناسب وإمكانياتها.

قلت: يا سبحان الله، إنها تقف معي الموقف النبيل نفسه الذي وقفه معي أستاذي مدحت الرشيدي في بداية التحاقي بالمعهد. لا شك أنه من فضل الله عليّ ورعايته التي رافقتني منذ بداية الطريق، فكما أنعم الله عليّ من قبل بأب عطوف وأم رحيمة، بذلا ما في وسعهما لإسعادي وتربيتي دون أن ينتظرا أجرًا مني على ذلك، فقد أنعم الله عليّ أيضـًا عبـر مشوار الحياة بعدد من الأساتذة الأفاضل الذين أحاطوني برعايتهم الكريمة، دونما النظر إلى أجر يتقاضونه مني على ذلك.

فلمسة وفاء أبعثها عبر هذه الكلمات القليلة المتواضعة، لهؤلاء وأمثالهم ممن أخذوا على عاتقهم بناء أجيال واعية على أساس من العلم والمعرفة، وفق الأهداف والغايات السامية التي يؤمنون بها.

في ليلة مجنونة من ليالي صيف عام 1977 في منزلي في شارع الحسين بمدينة الأطباء، وقد تجـاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، سمعت طرقًا على الباب، لم أكن قد اعتدته في هذه الساعة المتأخرة من الليل من قبل.

اقتربت من الباب، قائلًا: من الطارق؟

فجاءني صوته المنخفض وهو يقول: أنا أحمد.

قلت في نفسي: أحمد! ليس من بين المترددين على زيارتي في منزلي هـذا، مـن يحمـل هـذا الاسم، فأي أحمد هذا يا ترى؟.

قطع حيرتـي صـوته وهـو يـردد: افتح أنـا رفيقك الفنـان البحرينـي أحمـد الحـداد.

فتحـت البـاب مرحبـًا بـه. مـا إن جلس واحتسى قليلًا من الشاي وشعر بدهشتي قال: لا داعي للاستغراب، فقد تمكنت من معرفة عنوانك من أحد الأقرباء.

قلت: ما استغربت لهذا، ولكنه مجيئك في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

قال: إنما جئت قاصدًا دعوتك لحضور الحفل المتميز الذي يقيمه في هذه الساعة أكبر أوركسترا سيمفوني في الوجود.

قلت: في هذه الساعة؟!

قال: نعم، بعد نصف ساعة من الآن سيبدأ الحفل، فما عليك إلا أن ترتدي ملابسك، وترافقني إلى هناك، وإلا فاتك نصف عمرك.

قلت: أي أوركسترا هذا الذي يبدأ حفله في هذه الساعة المتأخرة. إني أشعر في كلامك بشيء من الجنون.

قال: على كل حال الفنون جنون، والمكان قريب من منزلك، سنذهب إليه مشيًا على الأقدام، وسوف تسمع وترى بنفسك.

ارتديت ملابسي وذهبت معه إلى حيث أراد. في منتصف الطريق وقد أسدل الظلام ستائره على المنطقة، فاجأني بطلبـه بـأن أتوقف عن السير، ففعلت، فإذا به يسألني عما شعرت به من تغيير جراء هذا التوقف المفاجئ، لم أفهم ما يعنيه من سؤاله.

فقال: لنستمر في المشي، وما أن سرنا قليلًا حتى سألني ثانية عن الذي حدث من تغيير نتيجة استمرارنا في المشي.

أبديت دهشتي، فاستطرد قائلًا: إنه ذلك الصوت الصادر من وقع أقدامنا أثناء المشي بإيقاع مستمر ومنتظم، وتوقفه بمجرد إعطائها إشارة التوقف عن المشي. ألا تشـعر بـأن عقلك عبـارة عـن مايسترو (قائد فرقة) وحركة قدميك عبارة عن أحد عازفي الإيقاع، يبدأ ويتوقف بإشارة من عقلك.

هززت رأسـي مـرددًا: “عليـه العـوض ومنه العوض”.

ثم واصلنا السير حتى اقتربنـا مـن إحـدى الترع المهجورة، حيث طلب مني الجلوس على حافتها، والإنصات للاستمتاع بالحفل الموسيقي الذي يُحييه أكبر أوركسترا سيمفوني في الوجود، كما قال. جلست ونظرت حولي فلم أرَ مسرحًا ولا عازفين، لكنه أشار بإصبعه في اتجاه الترعة قائلًا: الآن بدأ الحفل، عليك أن تركز، لتستمتع بالأصوات الصادرة من هناك. ضحكت، وشعرت بأني برفقة أحدهم؟

قال: أتسمع صوت الضفادع، إنها مجموعة الوتريات، ثم أشـار ناحية الصوت الصادر من صراصير الليل البيضاء معقبًا: لقد بدأت الآن مجموعة آلات النفخ بالعمل، وكذلك قال عن صوت الماء والشجر والهـواء وبعـض المخلوقـات الأخـرى مشـبهًا إياهـا بـآلات الأوركسترا السيمفوني. وما أن اقتربت ساعة الفجر وأخذت العصافير تزقزق وتغرد على أغصانها حتى صاح مرددًا: الله الله.

لقد بدأ فريق الكورال في الغناء ليُنهي أعظم سيمفونية في الوجود.

صحت بأعلى صوتي: الله يسامحك يا أحمد ويهديك، لقد حرمني جنونك الليلة من النوم.

لكني عدت كعادتي -مع ما يمر بي في حياتي- أنظر لما حدث من زاوية فلسفية، لأجد أن كل مخلوق من مخلوقات الله في هذا الكون في المناطق المختلفـة: الجماديـة، والنباتيـة، والحيوانيـة، والإنسانية، لديـه حـركـة وصوت متميز منسجم في الوقت نفسه مع الآخر، وهذا نفسه الذي يحدث بين آلات الأوركسترا وهي في أيدي مجموعة العازفين، فمع تميز كل نوع منها عن النوع الآخر؛ إلا أنها تعمل معًا في انسجام تام، وفق إيقاع ونغم موحد في خدمة العمل الموسيقي الواحد. فإذا كانت الموسيقى في أساسها إيقاع ونغم؛ فإن الكون في أساسه حركة وصـوت، ومخلوقات الله في السماوات والأرض -وفق هذه الصورة- عبارة عن مجموعة العازفين الذين يتكون منهم أوركسترا الكون الذي يقوم بعزف سيمفونية الوجود الرائعة، وفق الهدف الذي أراده لها الخالق المدبر العظيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى