«الصهد» للكويتي ناصرالظفيري: تحرير ذاكرة مكانية شبه منسية…

الجسرة الثقافية الالكترونية – القدس العربي
لروائي كندي الجنسية كويتي الهوى والانتماء ناصر الظفيري هو أحد الأصوات الروائية الهامة المؤسسة للمشهد السردي في الكويت، نجح في عدد من الأعمال السردية المقدمة في سجل تاريخه السردي، أهمها كانت رواية «سماء مقلوبة» ورواية «الصهد» أيضا بوصفها علامة سردية فارقة على مستوى سرديات الهوية الكويتية، فهذه الرواية بمعية كل من «في حضرة العنقاء والخل الوفي» و «ساق البامبو»، و «لأني أسود» تشكل رباعية هوية المهمشين في الكويت، ولن أقول الهوية الكويتية، فلا زال هناك الكثير من الاشتغالات السردية غير المنجزة على مستوى الهوية الكويتية بنفسها وليس منظورا إليها بمرآة المهمشين.
رواية «الصهد» هي رواية تأريخية أصيلة لحياة البدون مثلها مثل العنقاء، إلا إنها تفوقت على العنقاء في حفرها الأعمق في قضية الأصول الأولى المكونة لهوية البدون المنتميين لأطياف متعدة بدوية وحضرية سنية وشيعية قادمة من الشمال العراق أو قادمة من إيران، يرسم عالمها السردي بدايات الدخول للكويت وهي لا زالت في بواكير عهدها بالحياة المؤسساتية، ويسرد حكاية الكيانات التجارية القادمة من العراق ابن فضل، والكيانات البسيطة البدوية التي كانت تتنقل ببساطة وعفوية باحثة عن الاستقرار المادي أكثر من أي تكسب آخر، مثل شومان.
الكتاب الأول من الرواية يوثق لفكرة البدايات والكيانات المشكلة لهذه البدايات من سكان الكويت بتنوع أطيافهم العراقي والإيراني والفلسطيني كيف رمت بهم رياح الحياة القاسية إلى أرض الكويت بوصفها بيئة أكثر أمانا واستقرارا لابن فضل وشومان وأنس الكمال العسقلاني الفلسطيني المنكوب في وطنه، وتنقل من مصر لبريدة (القرية القاتمة لابن الفضاء المنفتح فآثر الارتحال للكويت بسبب وجود السجائر فيها، فعلبة سجائر وحالة استمتاع مؤقت قادرة على تغيير مصير إنسان وهذا جزء من عبثية الأقدار التي يؤمن بها ناصر الظفيري ويتبناها في أعماله.
الكتاب الثاني يرصد للجيل الثاني من البدون الذي اكتشف أزمته الوجودية بكونه بدونا غير منتم، يريد أن يجعل من علمه وكفاءاته العلمية حضورا فعالا وحقيقيا بدلا من الجنسية بالوراثة، ويجد الحل في الهجرة إلى أماكن تعطي ورقة انتماء ولا تمحي حضور المكان الأول في الذاكرة.
الانطلاق من الخصوصية وتوثيق نشأة الحياة في مدينة الجهراء كانت أهم انتقاءاته الذكية للمكان التاريخي الحاضن لمجموعة من المهمشين البدون في الكويت، فهي بالإضافة لكونها مدينة القاص، هي مدينة يسكنها البدون والكويتيون من الانتماءات القبلية، ومدينة قلما تحضر في السرد الكويتي بسبب عدم اهتمام الكتاب بها، فناصر هنا بوعي عميق يجعل الجهراء معادلة مكملة لجزء مهم من ذاكرة الأماكن الكويتية. فالكويت ليست فقط جبلة وشرق، ولكنها أيضا الجهراء وجميع المناطق الأخرى المغيبة في الذاكرة الحكائية الكويتية . ونحن نتحدث عن المكان ليس بوصفه شاغلا لمساحة معينة من الدولة بقدر ماهو فضاء ثقافي يتقاطع مع الكثير من مدن الكويت ويختلف ويتمايز بخصوصيته الثقافية ومجموعة من العادات والتقاليد للبدو. وأخيرا أصبح حاملا لذاكرة أليمة لهذه الفئة المحرومة والممزقة بأسئلة الحضور الرسمي والانتماء ما دامت حاضرة منذ بدايات تأسيس الكويت الحديث والرسمي. فذاكرة المكان هي ذاكرة حضور لأجيال استقرت جسديا ولم تستقر روحيا ولم تحظ باعتراف!
وهذا نوع من التوثيق واثبات الحضور سرديا خوفا على السيرة من المسح والالغاء، فما يقوم به سرد الهوية تخزين وتسجيل لذاكرة شفوية قابلة للنسيان إن لم يتم تسجليها، ومحاول إعادة صياغة من الهامشي والثانوي لتسجيل الذاكرة بصريا عبر فعل الكتابة لا الكلام.
وهذا لا يعني ان المكان تمركز حول مدينة الجهراء بالعكس هو متعدد على مستوى الكويت، والعراق، وايران، والسعودية وأمريكا وكندا، والملاحظ إن هذا التعدد في المكان لا يأتي اعتباطيا بل حيثما يحل ويتنقل الأبطال فهم ينقلون معهم سؤال هوية ووداع قطعة من الروح والتعلق بقطعة من الأمل جديدة تتوزع بين هنا وهناك.
وهذه الأماكن تعكس بشكل حقيقي مؤلم جدا هوية المهمشين الذي ودعوا الاستقرار لتصبح الورقة هي انتمائهم المنشود، بدلا من الفضاء اللغوي والثقافي الذي تربوا به وكان وشما بأرواحهم ولغتهم وذاكرتهم المثقلة به.
قراءة الرواية فلسفيا تحيلنا لعدة قراءات في الهوية والذاكرة وثنائيات الحضور والغياب، والصدمة وغيرها من الأفكار التي قدمتها الرواية في عرضها لهذه الإشكالية الإنسانية التي تعاني من أزمة وجودية عميقة يكررها ناصر في هذا العمل بعد أن أتى بها في روايته «سماء مقلوبة» للدوران حول فكرةعبثية الحياة، فهم باسم الخريطة وبخطأ غير مقصود منهم، ولا من أسلافهم، فاقدو الانتماء بينما آخرون وبعبثية مفرطة أيضا أصبحوا منتمين. هذا العبث هو إجابة الروائي المعرفية حول وضع البدون. وهو تفسير لأعراض حالة مرضية إنسانية تكمن بإشكالية المهمش، ولكنه يبقى مجرد تشخيص للحالة المرضية وليس علاجا شافيا، فالوجودية رغم الفهم الخاطئ لها ليست تخاذلا وسلبية والعيش في حياة مفرغة بقدر ماهي نقد للأوضاع العبثية ومحاولة التخلص منها بإيجابية، ويبدو إن أقصى ما تصل له إيجابية المهمشين هو الرحيل، فهم بشر مصابون بعدوى الرحيل، وفق رؤية الظفيري.
فكان الحل المقدم من ناصر الظفيري في روايتيه هو الرحيل إلى مكان أفضل إنسانية يمنح الجنسية بأربعة أعوام ويدرس بالمجان ويصرف بالمجان. قد يكون هذا الحل الأمثل من ناحية سياسية ولكنه أيضا الأسوأ على المستوى الإنساني في اقتلاع الإنسان من جذوره وهويته وانتمائه الحقيقي والأصيل.
لم تنج «الصهد» من حالة استنساخ لشخصية المرأة والرجل من روايته «سماء مقلوبة» فهو بنيويا يقدم نفس سمات الشخصيات نفس الهويات الفردية للأشخاص باختلاف الأسماء والظروف البسيطة التي تصب في حياة المهمشين.
فما الذي يختلف به بطل «سماء مقلوبة» عن «الصهد»، كلاهما يعيشان هذه الأزمة الوجودية العبثية،لا يهتمان بشيء ولا ينتظران شيئا، يعيشان مع المرأة ويستمتعان بهذه العلاقات من دون أن يبادرا، وكأنهما منفصلان عن عالم الرغبة والسؤال والطلب، كما هي تبرئة للبطل من دور الدون جوان الباحث عن المرأة، وتزكية للذات أخلاقيا كونها من تحافظ على القيم بينما المرأة هي من تخترق هذا، بل هي المبادرة وهي البضاعة التي تعرض نفسها عليهما، استنساخ بنيوي لنفس الأدوار الآباء والأمهات، والأبناء. وهذا يحيلنا بالضرورة إلى هوية المرأة التي خضعت لكثير من التشويش في العملين فكأنه نوع من تقديم صورة نمطية للمرأة في العملين، فنجوى رمز الغواية في «سماء مقلوبة»، تقابلها ديمة في «الصهد»، ونفس المصير كان بانتظارهما هو القتل. بينما ليال في «الصهد» هي الوريثة الشرعية لسارة وكلتاهما رمز للمرأة المثقفة المنفلتة أخلاقيا، بينما تأتي كل من نجوى وديمة رمزا للمرأة الجاهلة المنفلتة أخلاقيا أيضا. إذن بوجهة نظره في الروايتين إن بنية المرأة غير الأخلاقية واحدة وتعزز هذه النظرة هو تحول ريما الأخلاقي وهي المتفوقة التي كان يحترمها في الكويت كأخت ولكنها تحولت بكندا إلى رقم من أرقام علاقاته وبمحاولة مستميتة منها كالعادة لغواية الرجل المتبتل.
رواية «الصهد» كانت بكتابها الأول أكثر تشويقا بساردها العليم والموضوعي وأكثر أصالة في تقديم حكاية تتسم بالجدة والابتكار على مستوى السرد الكويتي، أما رواتها الداخليون علي وليال في الكتاب الثاني فقدما بحبكة مفككة وبسرد لاحق مفارقاته الزمنية مشوشة شوشت عملية التلقي وألبست على القارئ بعض التفاصيل من مثل عودته من كندا قبل فصل سفره وبداية رحلته لأمريكا وكندا. وبرأيي هي عمل يحتاج المزيد من القراءات لفهم عالمي الخطاب والحكاية بشكل مناسب.