«الطريق والصدى» يكشف أبعاداً مبكرة في تجربة نجيب محفوظ

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

سعيد نوح

 

أصدرت دار الآداب في بيروت أخيراً طبعة جديدة من كتاب «نجيب محفوظ الطريق والصدى» لعلي شلش، ويتناول تجربة صاحب «أولاد حارتنا» وصداها النقدي الممتد. هنا قراءة في الكتاب.

يلاحظ في الدراسات الكثيرة التي دارت حول محفوظ وأدبه أن الدارسين لم يعتنوا بمرحلتيه الأوليين الباكرتين بمقدار ما اعتنوا بمراحله التالية، باستثناء دراسة أصدرها عبد المحسن طه بدر عام 1978 بعنوان «الرؤية والأداة». ورغم الجهد الكبير الذي بذله بدر في هذه الدراسة، إلا أنه تجاهل الصدى النقدي لفهم المرحلتين، واكتفى بقراءته الخاصة.

ومن هنا أعاد شلش بحث الموضوع الذي شغل دراسة طه بدر، من حيث الرؤية والأداة. ويضيف شلش إلى ذلك بحث موضوع الصدى النقدي انطلاقاً من أن الكاتب لا ينتج – عادة – داخل فراغ اجتماعي أو ثقافي. ورغم تقدير شلش الشديد لجهد بدر، إلا أنه خرج من إعادة البحث في موضوعه بنتائج وملاحظات وتصويبات يرى أنها أكملت عمله ولم تتناقض معه.

قسَّم الكاتب دراسته إلى ثلاثة فصول: فصل لدراســة ما سماه مرحلة البحث عن طريق. وهنا يرى أن نجيب محفوظ لم يبدأ حياته الأدبية العلنية بالرواية، ولكنه بدأها بالمقال والقصة القصيرة، وكان أول مقال نُشر له العام 1930، ومنذ ذلك التاريخ وحتى ظهور أول رواية له عام 1939 وهي رواية «عبث الأقدار» لم ينشر سوى مقالات وقصص قصيرة. ويرى شلش أن قصص نجيب محفوظ القصيرة رشَّحته لكتابة الرواية، إذ كان معظمها «روايات مضغوطة»، فضلاً عن تعدد أحداثها وكثرة شخصياتها. وقد اعترف نجيب محفوظ كما أورد علي شلش أنه بدأ بكتابة عدد من الروايات ودار بها على الناشرين، فلم يرحب بها أحد، وعند ذلك فكر في «فكها» إلى قصص قصيرة ونشرها في المجلات كلما فتح له باب للنشر.

أما المقالات، فقد استمر في كتابتها ونشرها حتى ظهور روايته الأولى، وقد وقع فــي صــــراع نفسي بين الفلسفة والأدب. وقبيل نشر روايته الأولى انتهى الصراع بغير رجعة. وانتصر الأدب على الفلسفة، وتوقف البحث عن الطريق، لأنه ببساطة وجده، طريق الرواية.

وإن كان الحنين إلى كتابة المقال والقصة القصيرة لم يتوقف، فمن حين إلى آخر كان ينشر مقالة هنا وقصة قصيرة هناك.

أما الفصل الثاني فسمّاه «الطريق»، وفيه تحدث الكاتب عن المشروع الروائي لنجيب محفوظ، لكنه مهَّد لذلك بالحديث عن نشأة الرواية العربية، بل جعل من المقدمة استعراضاً للسياق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي شكَّل وعي نجيب محفوظ حتى عرف طريقه الروائي الذي بدأه بالرواية التاريخية ومن ثم انتقل بعدها لكتابة الرواية الاجتماعية، مفضلاً الرواية على القصة القصيرة وما سواها من فنون التعبير الأخرى.

ويورد شلش مقولات لنجيب محفوظ تؤرّخ لأسباب كتابته للرواية: «في الرواية نجد اللحظة أو الموقف الواحد اللذين تمتاز بهما الأقصوصة، وفيها نجد التحليل والنقد كما في المقالة، ونجد الحوار والموقف الدراماتيكي كما في المسرحية، وفيها متسع للتعبير والخيال الشعريين ونجد الاستعداد لها كما في الشعر، بل إن في الرواية إمكانيات الوسائل التعبيرية الأحدث منها كالإذاعة والسينما، وبينما نجد في كل شكل فني مجالاً محدوداً للتعبير لا يستطيع الفنان أن يتجاوزه، فإن الرواية لا حدود تحدها، في شكل فني لا نظير له».

في الفصل الثالث؛ «الصدى»، يستعرض الكاتب المقابلات الصحافية والدراسات النقدية التي أجريت حول أعمال نجيب محفوظ، ويرى أن في المقابلات الكثيرة التي أجراها الصحافيون معه قبل فوزه بجائزة نوبل في 1988، وبعدها، إشارة متكررة إلى أنه قضى سنوات عديدة من حياته الأدبية من دون أن يجد صدى إيجابياً عند النقاد: «وأول من كتب عني سيد قطب وأنور المعداوي… واشتغلت سنوات طويلة من دون أن أسمع نقداً يُقدِّر ما أقوم به».

ويرى شلش أنه كان من الطبيعي أن يأتي النقاد المتحمسون له من دائرة أبناء جيله مثل قطب والمعداوي، ومع ذلك يلفت الانتباه أن ناقداً آخر مثل محمد مندور لم يلتفت إلى إنتاجه. وكان مندور – منذ عودته من بعثته قبل ظهور أولى روايات محفوظ عام 1939 – قد شغل نفسه بنقد نماذج من الروايات والمسرحيات الحديثة، ولكنه لا يدري سر تجاهله روايات محفوظ خلال النصف الأول من الأربعينات.

ويلفت الكاتب إلى أن أبناء الجيل الأكبر سناً من الأدباء، من طراز العقاد وطه حسين والمازني وأحمد أمين والزيات، لم يكونوا متفرغين للكتابة عن إنتاج أبناء الجيل الأصغر سناً مثل نجيب محفوظ، ولا كانوا أيضاً قريبين من الإنتاج الروائي عند هؤلاء قُربهم من إنتاج الآخرين في الشعر بخاصة، ومع ذلك تبين من الرسائل التي نُشرت أخيراً لنجيب محفوظ أن العقاد والمازني ومحمود تيمور امتدحوا رواياته الأولى خلال الأربعينات، وأن جائزة مجمع اللغة العربية في القاهرة أوشكت أن تضيع منه لولا وقوف العقاد والمازني في صفه، وأن العقاد سُئل يوماً عن القصاصين الثلاثة الأُول، فقال: «الحكيم وتيمور والعبد لله، ويقصد نجيب محفوظ على حد تعبير الأخير نفسه في إحدى رسائله إلى صديقه أدهم رجب.

يرى الكاتب في خاتمة الكتاب أن ما فعله هو بداية وترميم لبعض جوانب البحث في العالم المحفوظي، وأنه مجرد كشف لغطاء الصدى النقدي لهذا العالم الجدير بالبحث والدرس، وقد ألحق بهذه المحاولة – على حد تعبيره – أهم النصوص النقدية التي تمكن من حصرها وجمعها، والتي تبلغ 16 مقالة ظهرت في المجلات القاهرية والبيروتية خلال تلك الفترة حتى يضع أمام الباحثين مادة – لا غنى عنها – في دراسة عالم نجيب محفوظ.

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى