العراقي علي رشيد: إحياء الصور السيريالية في ثوب رومانسي

الجسرة الثقافية الالكترونية – القدس العربي

حاز الفنان التشكيلي علي رشيد على جائزة سومبوزيوم باريس في شهر تموز/يوليو من هذا العام. وقد اشترك بلوحة جديدة تعتبر منعطفا حقيقيا في مسيرته الفنية. تتألف اللوحة من مساحة يتوزع عليها اللونان الأزرق والأخضر بالعدل مع كتلة خطوط سوداء متشابكة تظهر على يسار اللوحة وفي يمينها تنتقل رؤية الفنان علي رشيد من الرصيد والمخزون النفسي لنشاط البصر، أو بلغة أوضح من المشاركة بالإحساس للمشاركة برؤية المنظور.
لا شك أن لوحته ودعت ما ينوف على عقد من النشاط الفني الذي اعتمد على لونين هما الأبيض والأسود وما بينهما: الرمادي والكريمي.
لقد كانت هذه الرؤية تفسر الحركة النفسية لنشاط الواقع وأثره على العالم الداخلي للفنان.
بمعنى أنها ( كما قال فرويد ) ضرب من ضروب العادة السرية. إنها تدمج الواقع بالذات. أو أنها تسمح للطبيعة وللحياة أن تفيض على ذات الفنان وتغمرها بطوفان من مشاكل لا يمكن لأحد أن يحتويها أو أن يجسدها ( فهي أولا وأخيرا انهمام بالذات بلغة فوكو). وبالتالي هو يترك لها حرية تحدي الأشكال والعودة. بمعنى أنه يسمح لها أن تتخلى عن عالم الحدود وتتحول لصورة بلا معالم إو إلى هيولى. وربما إلى عاطفة وراءها مشاعر تحترق وتحرض. وليس هذا هو حال لوحته الجديدة. مع أنها لا تخرج ظاهريا على نطاق الألوان المعروفة والخطوط المتشابكة والأعداد المكتوبة بشكل مرآتي، وبالمقلوب، وهي مفردات مفضلة لدى علي رشيد وتكاد لا تخلو منها لوحة، فإن طريقة توزعها بين يمين ويسار، وأعلى وأسفل كما أرى له دلالة. إن هذه الألوان والخطوط هي دال على مدلول (معنى، مغزى، سياق).
بالنسبة للأزرق هو تعبير عن رؤية تصوفية وباطنية للطبيعة التي تتألف من سماء وبحر حيث أن الحدود تنمحي بينهما تماما مثل زوال وتلاشي الحدود بين عالم الفنان وتجربته. بين رؤيته الفنية وسقوطه في بؤرة الواقع الوجودي الأجوف المعدوم من المشاعر والأحاسيس.
أما الأخضر فهو الرمز المباشر للغطاء النباتي وللمروج والأعشاب. ولكل ما من شأنه أن يدل على الخصوبة والإنتاجية والعطاء والغنى. إنه الثروة الفطرية التي تضعنا وجها لوجه أمام نقاء الطبيعة. وهي ما نعمل جهدنا على تهجينها.
ومن هنا تبدأ حقيقة وجوهر المشكلة التي نراها في اللوحة بشكل خطوط أو عقدة من الخطوط.
هذه الكتل التي يمكن تفكيكها لوحداتها الصغرى لا يمكن إلا أن تدل على أثر لعصاب شائع، أو بلغة مباشرة على ندبة لجرح بارد كان ينزف.
و إن توزيع الندوب على أطراف اللوحة والإبقاء على المركز فارغا يدل بطريقة مباشرة على موضوعية الجدل المحتدم في ذهن الفنان وعلى تألمه وطبيعة أشواقه.
إنه نوع من المنطق المازوشي الذي يعمل على تفريغ المعاناة من خلال تجزئة الواحد وتحطيم ما يسميه الدكتور سامي أدهم بالواحدي. ولنكون أكثر تحديدا إنه تعبير عن شيزوفرينيا تحصر السؤال والإجابة ضمن ذات الفنان الواحد.
وهذا عندي هو منشأ الإصرار على منطق الأعداد المعكوسة. فهي قراءة معاكسة للتجربة مع الحياة، بحيث يسيطر التفسير البصري على شرح معاني ونشاطات الحركة في الواقع.
لقد كان من دأب علي رشيد أن يربط الحاضر بالماضي، وطبعا أقصد حاضر وماضي الحداثة. فقد بذل ما بوسعه لإعادة إحياء السيريالية، ولكن من منظور رومانسي غير وجودي. منظور يغلب عليه الحنين للبدايات ويضفي مشروعية عاطفية على ما هو مادي وواقعي.
لم يلجأ علي رشيد لديالكتيك تطوير الأفكار، ولكنه حاول أن يفسر الكبت وعالم اللاشعور والإخفاقات الشخصية بواسطة المعاني والعتبات الثابتة، وربما التي تميل أو تجنح لرؤية النشاط الطبيعي لواقع لا يعترف بالصمت ولا السكون.
إنه كان جازما في استبدال وإزاحة ثقافة لون من ألوان الماضي، وهي ثقافة الاكتشاف، والاستدلال على المطلق من خلال تجريد وتعريف الذات، وهي ثقافة صنمية وفردية متماسكة وتستطيع أن ترى الذات بصورة جوهر له معنى يكتفي بذاته، كالحارة الشعبية والبيت المتواضع القريب من الطبيعة، إلى ثقافة تنتمي عضويا لفكرة ما بعد الحداثة، وهي ثقافة متعددة المراكز، إنها ثقافة احتواء وتجزؤ وانشطارات ما أن تبدأ لا تعرف أين تنتهي. وتأخذ فيها المعاناة ودرب الآلام والوعي بالشقاء والخطيئة المرتبة الأولى، لذلك من أهم مفرداتها الأشكال الغامضة التي لا تستطيع أن تعزو لها معنى. إنها مساحات وفراغات قابلة للتأمل والتأويل، أو هي مساحات متحركة في الذهن وصامدة وساكنة على مستوى المنظور. وهذا، برأيي، هو سر الجاذبية والتشويق الكامن فيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى