العواصم الثقافية العربية.. بهرجة إعلامية أم استنطاق حضاري

ظهرت فكرة “العواصم الثقافية” في عام 1982، أثناء انعقاد مؤتمر في المكسيك حول السياسات الثقافية، وتستند الفكرة إلى أنَّ الثقافة عنصر أساس في حياة كل فرد وكل مجتمع، وأنَّ التنمية تنطوي على بعد ثقافي جوهري، ما دامت تستهدف في غايتها خير الإنسان.
وتهدف إلى تنشيط المبادرات الخلاقة وتنمية الرصيد الثقافي والمخزون الفكري والحضاري، وذلك عبر إبراز القيمة الحضارية للمدينة المستضيفة لفعاليات تظاهرة عاصمة الثقافة وتنمية ما تقوم به من دور رئيسي في دعم الابداع الفكري والثقافي تعميقاً للحوار الثقافي والانفتاح على ثقافات وحضارات الشعوب وتعزيز القيم، التفاهم والتآخي، التسامح واحترام الخصوصية الثقافية.
وبدأ التنفيذ الفعلي للمشروع سنة 1985 لتكون أثينا أولى المدن الثقافية الأوروبية، وتم إدراج تجربة العواصم الثقافية كإحدى المشروعات التي تتطابق مع أهداف العقد العالمي للتنمية الثقافية الذي انطلق فعليا سنة 1988 وانتهى سنة 1997.
وفي هذا الإطار، اقترحت المجموعة العربية في اليونسكو توسيع تجربة العواصم الأوروبية لتشمل المنطقة العربية اعتبارا لما لها من مخزون ثقافي أثرت به الحضارة الإنسانية، وبات في حاجة إلى تعهد وتوظيف في الدورة الاقتصادية وتعريف الآخر به.
وبادرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون مع خبراء عرب لوضع خطة للنهوض بالثقافة العربية ليتم إقرار الفكرة من جامعة الدول العربية.
ويتم اختيار العاصمة الثقافية وفق شروط واضحة وملف متكامل يقع إحالته إلى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لتتولى عرضه على اللجنة الدائمة للثقافة العربية، ثم على مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي لاتخاذ القرار المناسب بشأنه.
وكانت القاهرة أول عاصمة للثقافة العربية في العام 1996، وبعدها تونس في العام 1997، ثم تأتي بيروت ومن ثم الشارقة في عام 1999.
وتمر الرحلة عبر الرياض في العام 2000، ومن بعدها الكويت في العام 2001 حتى نصل الى عمان في العام 2002، ومن ثم الرباط في العام 2003 ، ليحط بعدها مركب الثقافي في العام 2004 في مدينة صنعاء، وفي العام 2005 الخرطوم.
بدأت رحلة جديدة في العام 2006، عندما أقر وزراء الثقافة العرب مجموعة جديدة من العواصم الثقافية العروبية التي تؤهلها مكانتها الحضارية والتاريخية لتتزعم راية الثقافة لعام كامل، فتحتفي مسقط بتاريخها وتراثها في العام 2006، ومن بعدها الجزائر في العام 2007التي أخذت تمتد الى كل العواصم العربية لتعزيز الترابط والتلاقي فيما بينها، ويسير بنا مركب الثقافة إلى دمشق في العام 2008، ثم القدس 2009، الدوحة 2010، المنامة 2012، بغداد 2013، طرابلس 2014، قسنطينة 2015، صفاقس 2016.
ووجود المدن الثقافية ليست ترفا فكريا أو مظهرا شكليا أو تقليدا غربيا وإنما ضرورة حضارية، ذلك أن الثقافة تشمل جميع عناصر الحياة المختلفة، ومن فوائد المدن الثقافية تحويل مفهوم الكثير من الناس القائم على أن الثقافة مرتبطة فقط بالادب والشعر الى مفهوم الثقافة الشاملة على جميع العناصر، بالاضافة الى انها عنصر فعال في الحراك الثقافي الشعبي، وفيها تدريب لهيئات المجتمع الثقافية بعامة، وحث الشباب بخاصة على الاهتمام بالثقافة والمساهمة في تطويرها.
كما أن مشروع العواصم الثقافية يساهم في تطور كبير على صعيد البنية التحتية فإعلان مدينة ما عاصمة للثقافة يساعد في وقوف الوزارات والمؤسسات الأخرى والهيئات الثقافية جنبا إلى جنب، لاستخدام البنى الموجودة أصلا في هذه المدن من أجل انخراط المبدعين والمؤلفين في الفعل الثقافي، وتفعيل أدوار ثقافية لهيئات وأفراد ربما كانت متوقفة أو مجمدة لأي سبب كان.
لكن هل تعاملت العواصم الثقافية العربية بجدية مع المشروع منذ انطلاقته وحتى الآن، وهل كانت الثقافة موسمية واحتفالية مثلها مثل أي حفل يقام وينتهي بدون تداعيات وآثار تجعل من المناسبة حدثا مهما على مستوى محلي وعربي.
بعض نشاطات وفعاليات العواصم الثقافية الفنية نقلت هوية الشارع بمختلف تفاصيله، لكنها في الجانب الآخر المعني بالمشهد الفكري لم تستطع نقل الثقافة من حيزها النخبوي إلى آفاق واسعة فسيحة، أو بتعبير أدق إلى الحيز الشعبي وإلى مختلف أطياف المجتمع، مثلما فعلت الرياضة مثلا التي تكرس باستمرار نسقا احتفاليا شعبيا ونماء اقتصاديا يشترك في صياغته جميع فئات المجتمع.
وعلى الرغم من هذا إلا أننا لا يجب أن ننظر بكامل السوداوية لهذه التجربة فقد حققت مستوى لا بأس به من النجاح يختلف باختلاف الدول أو العواصم من حيث العمق الثقافي أو الوفرة الاقتصادية أو القدرة التنظيمية لدى المسؤولين.
وتعود هذه النسبة من النجاح أيا كان مقدارها إلى نجاح بعض الدول في استثمار المناسبة وتسويق المنتج الثقافي لها على الدول وعرضه وتقديمه، وتحول الوعي لدى الكثير من المثقفين إلى أهمية هذا الاستثمار وخلق حالة ثقافية ضمن العام المخصص للعاصمة انسحبت في كثير من الدول إلى مدن ومحافظات أخرى في نفس البلد.
ويتفاوت نجاح التجربة أيضا باجتهاد كل دولة، والتقبل الإعلامي لنشاطها، وتعاون المشهد الثقافي العربي معها، وإن برزت هناك ثغرات في تسييس المناسبة وتسيد البهرجة الإعلامية وإقصاء ثقافة وإبراز أخرى، لكن هذا ذلك لا يلغي إنجازات استطاعت استنطاق التاريخ واكتشاف منارات متجددة في الثقافة العربية.
وتبقى المشكلة التي تواجه كل التجارب الثقافية بشكل عام وهي أن الثقافة غير واضحة المعالم بشكل دقيق، ومن هنا فالمشاريع الثقافية هي محاولة للاقتراب من الهدف الكبير الذي تسعى إليه كل المشاريع الثقافية.
وتندرج تحت هذه المشكلة إيجاد صيغة ثقافية نهائية يمكن تعميمها على جميع المستويات والدول والمؤسسات، وهذا بحاجة إلى إطار تنظيمي يحفز الأفكار ويدفع بها ويحتضن أنشطتها، ولذلك تأتي فكرة العواصم الثقافية ناجحة وفعالة حين لا تكرس أنشطة بعينها ولا تنمط الفعل الثقافي بوصفه أقرب الصيغ لإقامة أنشطة ثقافية.
كما يجب على المثقف أن يضيف إلى المشهد الثقافي من خلال الأنشطة القائمة كالعواصم والأيام والجوائز الثقافية ما يجعل للتجربة خصوصيتها وفرادتها ويبتعد بها عن الترف والبهرجة الشكلية والتقليد لأجل التقليد.
(ميدل ايست اونلاين)